محطات في الذاكرة| صالح ادريس خليل معلم جامعي متقاعد.
تمثل رحلة الحياة عن رحلتي عبر محطاتٍ راسخةٍ في الذاكرة، نستعيدها بكلماتٍ حانيةٍ ونستلقي فيها على دفءِ الذكريات. في رحلتي أنا المعلم الجامعيّ المتقاعدِ صالح إدريس خليل، سوف أغوصُ في محطاتٍ من مسيرتي المُلهمة، وأُسلّطُ الضوءَ على إنجازاتي المُتميّزةِ منها في مجالِ التربيةِ والتعليم.
مجلة شهربان الألكترونية- SHAHARBAN MAGAZINE
في مقدمتي التي أخترت لها عنوان محطات في الذاكرة هي مجموعة قصصيه حقيقية امتدت لاكثر من خمسين عاماً من عمري. تناولت فيها ذكريات ومع اختلاف بعض الاسماء لدواعي خصوصية بي عشت فيها فكانت حقاً اعتز بها وصدق الشاعر احمد شوقي حينما قال:-
جَنَيتُ بِرَوضِها وَرداً وَشَوكاً
وَذُقتُ بِكَأسِها شُهداً وَصابا
فَلَم أَرَ غَيرَ حُكمِ اللَهِ حُكماً
وَلَم أَرَ دونَ بابِ اللَهِ بابا
اتمنى الى ان اوفق ومن الله التوفيق
***********
بعد سبعين عامًا من الحياة، لا تزال نفسي تهفو للكتابة، مدفوعةً بشغفٍ لا ينضبُ لهوى الشباب وإلى زوجتي وأولادي وأحفادي، وأصدقائي الأعزاء. أخترت تلك المحطات لكي أنطلق في تسجيل مسيرتي في الحياة.
رحلة التعيين إلى كركوك!.
صدر أمر تعييني في صيف عام 1979 في كركوك ذهبنا نحن المعلمين الى هناك بعد صدور أوامر التعيين ووصلنا هناك وكانت كركوك جميله وقضينا ليلتنا في فندق الفرات مقابل مستشفى كركوك الجمهوري. وفي اليوم التالي ذهبنا إلى المديرية العامة للتربية لاستلام الاوامر الإدارية أنا واسماعيل وحكمت واحمد.
"المعلم شمعة تنير الظلام، تُضيء دروب العلم والمعرفة."وكنا بين خيارين الأول أن نختار مدرسة واحدة والثاني كل منا في مدرسة مختلفة من أجل أن لانؤثر على الدوام فيها. كان اختارينا للخيار الثاني! كنا لا ندري ان نهر الزاب يفصل بين مدارسنا. وصار حكمت واحمد في جهة وانا واسماعيل في الجهة الاخرى. ولكن هذا لم يمنعنا من التواصل بيننا آنذاك واستمرت علاقتنا أربعين عاما مضت.
ذكريات من قرية طويلعة!.
كان تعييني في قرية طويلعه التي تغفو على نهر الزاب الاسفل وعلى سفح جبال حمرين منظراً رائعاً وكانت قرية طويلعة جميلة بحد ذاتها. وكان اهلها غالبيتهم من الحمدانيين وكانت قرية جميلة بحق تبعد عن قضاء الدبس حوالي نصف ساعة.
وكانت قرية طويلعو بلا ماء ولا كهرباء! وكنا المعلمين في باديء الأمر نداوم في بيت من البلوك الاسمنتي وكنا نفترش ادارة المدرسة ونعيش فيها. كنا أربع معلمين كل واحد من محافظة واستمر الحال لدي سنتين حيث انتقلت إلى قرية ادريس تمر ولي في القرية ذكريات.
- اولها زفاف احد الاصدقاء في القرية استمر اسبوعا كاملا يبدأ بعد العشاء ليلا وينتهي بعد منتصف الليل ويتضمن الدبكات الكردية ورقص الجوبي
- وثانيها السيد عبد الله ابو سهيل حيث كان يعمل موظف في المدرسة وكنا ليلا نتعلل في بيته فراينا شخصا شابا في بيته وليس من أهل القرية.
وحينما سالنا ابو سهيل عنه قال سأقص عليكم قصته غدا ومفادها أن هذا الشاب من أهل الموصل وان إبيه متزوج نسوان اثنين. وفي يوم من الأيام كانت الزوجه الثانية جالسة في السيارة والشاب كان يسوق ويبدو انها لم تغلق الباب جيداً وعند شروعه بالسير انفتحت الباب ودهس زوجة ابيه.
وغضب الوالد على ابنه وأرسل لابيه أناس خيريين لاصلاح ذات البين ولم يرضى الأب على الولد. وما كان من الولد أن يبقى عند أبيه في المنطقه وذات ليله حضر الولد إلى بيتنا. واستفسرت منه فاجابني صديق وبعد ثلاثة ايام من الضيافه استفسرت منه عن قصته.
قصة الشاب الغريب وكرم الضيافة.
فاجابني: بما ذكرته لكم فقلت له هل تريدني أن اذهب إلى أبيك ونصالحكم , قال: لا لاني ارسلت اليه أناس كثيرين ولم يقبل، فقلت له اذن تبقى في بيتي كانك أحد اولادي. والذي يصيبهم يصيبك فما رايكم ووافق على الحال وبقى لدي ستة أشهر.
وذات يوم قال لي أريد أن أذهب إلى اهلي وارى ماذا حصل بعدي! وذهب وانتظرته اسبوعين او ثلاث ولم يرجع, وذات يوم رأيت ثلاث سيارات نحو القرية لان قريتنا مرتفعة عن الشارع , فقلت يا ستار هذه ليست سيارات القرية واتجهت السيارات نحو بيتنا,
وبعد عشر دقائق واذا بالولد الشاب يأتي بعمامه وابيه ويشكرونني على ضيافتي لولدهم ومنذ ذلك الحين قبل سنتين يأتي الولد الشاب الي ليزورني كل شهرين او ثلاث واستمر هذا الحال لغاية اليوم .
غداء مفاجئ من أهل القرية؟
وثالثها كنا نحن المعلمين الأربعة كل من كريم وستار ومحمد وانا لم ننزل هذا الاسبوع إلى كركوك يوم الخميس والجمعه. وكان يوم الجمعه ومعنا ابو سهيل ونحن حائرين في غداءنا لا توجد لدينا أي قطعة خبز أو خضروات لدينا.
وزاد في الأمر أننا استقبلنا ظهراً معلمين اثنين كضيوف من خارج القرية بدون علمنا؟ وتحيرنا في امرهم وفي هذه الاثناء جاءنا محمد ابن ابو سهيل صدفة وقلنا له أن يخبر أبيه أن المعلمين يدعونك للغداء؟
فذهب الولد إلى أبيه وقال لابيه ما قلنا له فاردف قائلا ( ولك المعلمين غداء ما عدهم يعزموني فجهز الغداء وجاء بعد ساعه وقال لنا قومو تغدوو افندية) .
رحلة سباحة عبر نهر الزاب.
رابعها جاءني صديقي حكمت يوم الخميس كزيارة وعندما امضى معنا يومين في القرية أراد أن يذهب إلى قريته يوم السبت التي هي مقابل قريتنا ويفصل بيننا النهر. فقلت له لماذا تذهب إلى قضاء الدبس وترجع إلى القرية.
اعبر النهر سباحه وكان النهر يتفرع إلى أربعة فروع ثلاث: منها غير عميقه لحد الركبة والرابع أعمق فذهب ونزع بنطلونه وبقي بالسترة والرباط وسيرت معه احد الطلاب! ليحمل بنطلونه وحقيبته الدبلوماسية؟
فظنت الملايات في القرية المقابله صوب النهر أن احد المسؤولين الكبار سيزور القرية وفعلا قام الشاب الذي معه بتوصيله إلى قرية كراو ومن هناك يذهب إلى قرية ساردك.
زيارة نجم وكرم أهل القرية وحسن ضيافتهم.
وخامسها في يوم من الايام ذهبت لزيارة اخي نجم عبد غافل معلم في احدى القرى القريبة من قريتنا حيث تبعد ثلاث كيلومترات. وعندما وصلت الى القرية اخبروني اهل القرية بأن السيد نجم ذهب الى قضاء الدبس ولحد الان لم يعد.
"المعلم بستانيٌّ يُربي الأجيال، ويُغرس فيهم قيم الخير والجمال."وعندما هممت بالعودة استوقفني احد المارة من القرية وقت الغروب وعندما سئلني عن سبب المجيء اوضحت له ان سبب مجيئي الى القرية يعود الى المعلم نجم.
وقال: لي والان اين انت ذاهب.
قلت الى قريتي.
فقال تعال معي فذهبت؟
واذا بأهل القرية مجتمعين في احد البيوت وجلبو لنا عشاءآ للجميع! وهذا يدلل على كرم وطيبة اهل القرية، حيث منعونا من مغادرة القرية دون ان نتناول طعام العشاء.
واذا بالسيد نجم يحضر ايضا وهذا يدل على كرم وطيبه اهل القرية اسوة بالقرى المحيطه بها فتناولنا طعام العشاء واحتسينا الشاي ورجعنا الى القرية .
يتبع.