أهمية الحفاظ على التراث الحرفي العراقي ودعم الحرفيين
التراث الحرفي العراقي ليس مجرد مهن يدوية تقليدية، بل هو ذاكرة حيّة تختزن فيها الحضارات القديمة التي مرّت على أرض العراق، من السومريين والبابليين إلى العباسيين والعثمانيين. هذا التراث ليس فقط وسيلة للتعبير عن المهارة والإبداع، بل هو هوية وطنية متجذرة في عمق المجتمع العراقي. في ظل التحديات الاقتصادية، والانفتاح العالمي، والتغيرات الاجتماعية، أصبح الحفاظ على هذا التراث مسؤولية جماعية تحتاج إلى دعم مستمر وتخطيط ذكي.
![]() |
أهمية الحفاظ على التراث الحرفي العراقي ودعم الحرفيين |
العراق، المعروف بمهد الحضارات، هو أحد أقدم الأماكن التي شهدت ظهور الحرف اليدوية. في بلاد ما بين النهرين، بدأ الإنسان القديم بصنع الأدوات، الأواني الفخارية، والأقمشة، مستفيدًا من الموارد الطبيعية المتوفرة حوله. عبر العصور، تطورت هذه الحرف، وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالثقافة والاقتصاد والدين. في العصر العباسي، على سبيل المثال، كانت بغداد مركزًا صناعيًا وحرفيًا مهمًا، حيث ازدهرت صناعة الزجاج والنحاس والمصوغات.
استمر هذا الازدهار لعقود، ولكن مع تغير الزمن وتراجع الاهتمام المحلي والدولي، أصبحت هذه الحرف مهددة بالانقراض. ما يثير القلق أكثر هو أن الأجيال الجديدة بدأت تفقد الاتصال بهذا الجانب الهام من التراث، إما بسبب قلة الوعي أو التوجه نحو وظائف حديثة غير حرفية.
التنوع الجغرافي وأثره على تنوع الحرف: ما يميز التراث الحرفي العراقي هو التنوع الجغرافي الذي انعكس بشكل مباشر على تنوع الحرف. في الجنوب، تنتشر صناعة الحصير من السعف، وفي الشمال، تبرز مهارات حياكة السجاد الكردي. في بغداد والموصل، تتألق الحرف المعدنية والخشبية، بينما تشتهر النجف وكربلاء بالحرف الدينية المرتبطة بصناعة الترب والخواتم المنقوشة.
كل منطقة في العراق لديها بصمتها الخاصة، مما يجعل التراث الحرفي ثروة وطنية متعددة الأبعاد. هذا التنوع ليس فقط جغرافيًا، بل أيضًا ثقافيًا ودينيًا واجتماعيًا، ويُعَدّ عاملًا مهمًا في الحفاظ على الهوية الوطنية.
أنواع الحرف اليدوية العراقية التقليدية
1. صناعة الفخار.
تُعد صناعة الفخار من أقدم الحرف اليدوية في العراق، ولا تزال تُمارس حتى اليوم في بعض المناطق الريفية. هذه الحرفة التي تعود جذورها إلى آلاف السنين، كانت تستخدم لصنع الأواني اليومية، مثل الجرار والأكواب والأطباق. يتميز الفخار العراقي بزخارفه الفريدة وألوانه المستمدة من الطين الطبيعي.
رغم بساطة المواد، إلا أن هذه الحرفة تتطلب مهارة ودقة في التعامل مع الطين، تجفيفه، ثم حرقه في أفران خاصة. ومع أن هذه الصناعة واجهت تراجعًا في السنوات الأخيرة بسبب المنافسة مع المنتجات الصناعية، إلا أن هناك جهودًا محلية ودولية لإحيائها.
2.النقش على النحاس
فن النقش على النحاس هو من أبرز معالم الحرف اليدوية في المدن العراقية الكبرى مثل بغداد والموصل. يتميز هذا الفن بتفاصيله الدقيقة وزخارفه التي تدمج بين الزخرفة الإسلامية والفن الشعبي. كانت هذه القطع تُستخدم في البيوت والمساجد، وتشكل عنصرًا ديكوريًا مهمًا.
اليوم، يواجه هذا الفن تحديات كبيرة بسبب قلة الطلب وارتفاع أسعار المواد الخام، لكن لا يزال هناك حرفيون متمسكون بهذه المهنة، ينقلونها من جيل إلى جيل بشغف وإبداع.
3.السجاد والبسط اليدوي
يُعَد السجاد العراقي من التحف الفنية التي تمزج بين الجمال والفائدة. في كردستان العراق والمناطق الريفية في الجنوب، تنتج الأسر قطعًا يدوية تحاكي الطبيعة والتراث. يتميز السجاد بألوانه الزاهية ونقوشه التي تحكي قصصًا من الحياة اليومية.
حياكة السجاد تتطلب شهورًا من العمل المتواصل، وهي حرفة تعلمتها النساء غالبًا منذ الصغر، حيث يجتمع فيها الفن والمهارة والصبر. ولكن للأسف، تراجع الاهتمام بهذه الحرفة أيضًا نتيجة ضعف التسويق والعولمة.
4. التطريز والنسيج التقليدي
التطريز في العراق ليس مجرد زينة للملابس، بل هو تعبير عن الهوية والاحتفال بالمناسبات. تستخدم النساء العراقيات الألوان الزاهية والخيوط الحريرية لصنع أثواب مطرزة تعكس البيئة التي ينتمين إليها، سواء كانت حضرية أو ريفية أو بدوية.
هذه الحرفة تتطلب دقة وذوقًا رفيعًا، وكانت تُنقل تقليديًا من الأمهات إلى البنات. في بعض المناطق، لا تزال هذه الحرفة مزدهرة، لكنها بحاجة إلى دعم كبير لتستمر وتزدهر في الأسواق المحلية والعالمية.
أهمية الحرف اليدوية في الثقافة والهوية الوطنية
الحرف كرمز للهوية العراقية
الحرف اليدوية ليست مجرد أدوات أو زينة، بل هي مرآة تعكس ملامح المجتمع العراقي بكل ما فيه من تنوع وتعدد ثقافي. كل قطعة حرفية تمثل رواية فريدة عن منطقة معينة، عن تقاليدها، عاداتها، وحتى معتقداتها. خذ على سبيل المثال السجاد الكردي أو المطرزات الجنوبية، كلاهما يحملان رموزًا وألوانًا لها دلالات ثقافية متجذرة منذ قرون.
الهوية العراقية ليست واحدة موحّدة، بل فسيفساء غنية من الثقافات الفرعية، والحرف هي وسيلة للحفاظ على هذه الفسيفساء من الذوبان في ثقافات أخرى. إن اختفاء حرفة معينة قد يعني ضياع جزء من الذاكرة الجمعية لشعب بأكمله، لذا فإن دعم الحرفيين هو في حقيقته دعم للهُوية الوطنية بأكملها.
ومع الانفتاح الثقافي، تحتاج الهوية العراقية إلى مظلة تحميها من الذوبان، وهذه المظلة هي الحرف التي لا تزال تقاوم الحداثة بأسلوبها التقليدي الفريد. وبالتالي، فالحفاظ عليها هو نوع من المقاومة الثقافية ضد التهميش والنسيان.
دور الحرف في المناسبات الدينية والاجتماعية
تلعب الحرف اليدوية دورًا محوريًا في حياة العراقيين، خاصة في المناسبات الدينية والاجتماعية. مثلًا، خلال الزيارات الدينية في كربلاء والنجف، تنتشر منتجات الحرفيين بشكل واسع، سواء كانت تربًا فخارية، مسبحات، أو خواتم منقوشة. وكل قطعة من هذه المنتجات لها بعد روحي وثقافي خاص.
كما أن الأعراس والمناسبات الاجتماعية لا تكتمل دون حضور الحرف المحلية، مثل الملابس المطرزة أو الهدايا اليدوية التي تعبر عن الذوق والتراث. حتى في الديكورات المنزلية، يعتمد الكثيرون على المنتجات اليدوية لما تحمله من قيمة معنوية وجمالية.
وجود الحرف في هذه المناسبات يعزز من حضورها في الحياة اليومية، ويساهم في ترسيخها في ذاكرة الأجيال الجديدة. فهي ليست فقط أدوات أو زينة، بل رموز لها مكانة اجتماعية وروحية لا يمكن تجاهلها.
التحديات التي تواجه الحرفيين العراقيين اليوم
العولمة وتأثير المنتجات المستوردة
مع الانفتاح الاقتصادي الكبير، أصبح من السهل على السوق العراقي استقبال منتجات مستوردة من بلدان عديدة، خاصة من الصين وتركيا. هذه المنتجات غالبًا ما تكون أرخص وأكثر تنوعًا، ما يجعل المستهلكين يميلون لشرائها بدلاً من المنتجات الحرفية المحلية. هنا تبدأ المشكلة، حيث يجد الحرفي نفسه في منافسة غير متكافئة مع مصانع عملاقة.
العولمة بطبيعتها تفرض نموذجًا موحدًا من المنتجات، ما يجعل التنوع الحرفي مهددًا بالاختفاء. والنتيجة؟ تراجع الطلب على الحرف المحلية، وبالتالي انخفاض في دخل الحرفيين، مما يدفع البعض منهم لهجر المهنة تمامًا.
الأخطر من ذلك هو أن العولمة لا تقتصر على الاقتصاد فقط، بل تمتد لتؤثر على الذوق العام. فالشباب اليوم يميلون إلى التصاميم الغربية والحديثة، ويبتعدون تدريجيًا عن كل ما هو تقليدي ومحلي، ما يزيد من عزلة الحرفيين.
تراجع الدعم الحكومي والمؤسساتي
في الماضي، كانت هناك مبادرات حكومية لدعم الحرف اليدوية، سواء عبر المعارض، أو من خلال مراكز التدريب، أو حتى عبر قروض ميسّرة للحرفيين. ولكن في السنوات الأخيرة، تقلّص هذا الدعم بشكل ملحوظ، مما ترك الحرفيين يواجهون مصيرهم بمفردهم.
الدولة مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بوضع خطط استراتيجية للحفاظ على الحرف، تشمل الدعم المالي، والتدريب، وتسويق المنتجات محليًا ودوليًا. فبدون هذا الدعم، لن تستطيع هذه المهن الاستمرار في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
كما أن هناك حاجة ملحة لتشريع قوانين تحمي الحرفيين، وتضمن لهم دخلًا مستقرًا وتأمينًا صحيًا، وتحفز الشباب على الانخراط في هذه المهن عبر التعليم والتدريب المهني.
ضعف التسويق والتمويل
من أبرز التحديات التي تواجه الحرفيين هي عدم قدرتهم على تسويق منتجاتهم بشكل فعّال. في ظل غياب المنصات الإلكترونية المتخصصة، والتدريب على مهارات التسويق، يبقى العديد من الحرفيين غير قادرين على الوصول إلى جمهور أوسع سواء داخل العراق أو خارجه.
التمويل أيضًا يشكل عقبة، حيث أن معظم الحرفيين لا يمتلكون رأس المال اللازم لتطوير أدواتهم أو فتح ورش جديدة. وغالبًا ما تعتمد هذه المشاريع على مجهود فردي محدود، مما يحد من قدرتها على المنافسة.
وجود مؤسسات تمويل صغيرة أو برامج دعم دولي يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا. كما يمكن للحرفيين أن يستفيدوا من التجارة الإلكترونية والمنصات العالمية مثل Etsy وAmazon Handmade لتسويق منتجاتهم.
دور الحكومة والمجتمع في حماية الحرف التراثية
السياسات الحكومية ودعم الصناعات التقليدية
الحفاظ على التراث الحرفي في العراق يحتاج إلى تدخل حكومي حقيقي يتجاوز الشعارات إلى أفعال ملموسة. فغياب السياسات الداعمة أدى إلى تراجع خطير في عدد الحرفيين، وانقراض بعض الحرف القديمة. يجب أن تتبنى الحكومة العراقية استراتيجية شاملة تتضمن توفير التمويل، الإعفاءات الضريبية، والتسهيلات اللوجستية لتمكين الحرفيين من الاستمرار.
من بين السياسات الممكنة، إنشاء "القرى الحرفية" أو "الأسواق التراثية" التي تكون بمثابة مراكز دائمة لعرض وبيع المنتجات الحرفية، وتجذب السياح والمهتمين من داخل وخارج العراق. كما يمكن إطلاق صناديق تمويل صغيرة لمساعدة الحرفيين على شراء المواد الخام، وتطوير معداتهم.
يجب كذلك أن تكون هناك جهة حكومية رسمية تتولى تسجيل الحرف التراثية، وتوثيقها، وربما حتى تصنيفها كموروث وطني محمي، على غرار ما تقوم به منظمات مثل اليونسكو على المستوى العالمي.
دور التعليم في نشر الوعي الحرفي
من الأخطاء الكبيرة في النظام التعليمي العراقي هو تجاهل الجانب الحرفي والإبداعي لدى الطلاب، والتركيز فقط على التعليم الأكاديمي النظري. في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى أيدٍ ماهرة في الحرف، نجد أن الطلاب لا يتعرضون لأي نوع من التدريب العملي أو التثقيف الحرفي.
هنا يأتي دور وزارة التربية والتعليم، التي يجب أن تدمج مناهج خاصة بالتربية الحرفية في المدارس، وتنشئ ورش عمل تُعرف الطلاب بالحرف التقليدية. بل يمكن أن تتحول بعض المدارس إلى مراكز حقيقية لتدريب الجيل الجديد على الحرف.
كما يمكن للجامعات والكليات التقنية أن تفتح تخصصات جديدة مرتبطة بالحرف اليدوية، مع تقديم شهادات معتمدة تسهّل اندماج الخريجين في سوق العمل المحلي والدولي، وتعيد الاعتبار لهذه المهن التي طالما كانت جزءًا من مجد العراق الثقافي.
مبادرات المجتمع المدني والمنظمات الثقافية
دور المجتمع المدني لا يقل أهمية عن دور الحكومة، بل في كثير من الأحيان يكون أكثر فاعلية ومرونة. الجمعيات الثقافية، والمنظمات غير الحكومية، وحتى الأفراد، يمكن أن يساهموا في إنقاذ الحرف العراقية من الضياع من خلال مبادرات بسيطة ولكن فعالة.
من أبرز هذه المبادرات: تنظيم معارض دورية للحرفيين، توفير دورات تدريبية مجانية، التعاون مع منصات إلكترونية لتسويق المنتجات، وإقامة مهرجانات تروّج للتراث العراقي. كما يمكن أن تنشأ شراكات بين المنظمات المحلية والدولية لنقل الخبرات وتبادل الدعم.
وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا أصبحت أداة قوية بيد المجتمع، حيث يمكن من خلالها تسليط الضوء على قصص الحرفيين، ومنتجاتهم، وتشجيع الشباب على الاهتمام بهذا المجال. فصوت المجتمع، إذا اجتمع، يمكن أن يُحدث تحولًا كبيرًا ويعيد للحرف العراقية مجدها الضائع.
سبل دعم الحرفيين للنهوض بالصناعات الحرفية
تعزيز التواجد الرقمي للحرفيين
في العصر الرقمي الحالي، أصبح من المستحيل تجاهل أهمية الإنترنت في الترويج للمنتجات، بما في ذلك الحرف اليدوية. ومع أن أغلب الحرفيين العراقيين ما زالوا يعتمدون على الطرق التقليدية في البيع، إلا أن التوجه نحو التسويق الرقمي يمكن أن يفتح لهم آفاقًا جديدة.
الخطوة الأولى هي تدريب الحرفيين على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، إنستغرام، وتيك توك لعرض منتجاتهم، ومشاركة قصصهم وتفاصيل أعمالهم اليدوية. هذا النوع من المحتوى يلقى رواجًا كبيرًا خاصةً عندما يكون نابضًا بالحياة ويعكس البُعد الإنساني للمهنة.
كما يجب مساعدتهم على دخول المنصات العالمية مثل Etsy، Amazon Handmade، وحتى إنشاء مواقع إلكترونية بسيطة لعرض وبيع منتجاتهم مباشرة. هذا لا يسهل فقط عملية التسويق، بل يُمكّنهم من التعامل مع جمهور عالمي يُقدّر العمل اليدوي ويرى فيه فنًا يستحق الاقتناء.
تمكين النساء في قطاع الحرف اليدوية
تلعب النساء دورًا رئيسيًا في الحرف اليدوية بالعراق، خاصة في المناطق الريفية، حيث تُعتبر الحرف مصدر دخل مهم للنساء المعيلات أو اللواتي يفتقرن لفرص العمل التقليدية. لذلك، تمكين النساء في هذا القطاع يجب أن يكون من أولويات أي خطة لدعم الحرف اليدوية.
يمكن تحقيق ذلك عبر إنشاء جمعيات تعاونية نسائية للحرف، وتقديم منح صغيرة تُساعدهن على البدء بمشاريعهن الخاصة. كما يمكن تخصيص برامج تدريبية في التطريز، الحياكة، والخياطة، بالتعاون مع منظمات دولية ومحلية.
أكثر من ذلك، يجب أن يكون هناك دعم مجتمعي للمرأة الحرفية، من خلال توفير حضانات لأطفالها أثناء العمل، وتقديم تسهيلات للوصول إلى الأسواق. بهذا الشكل، يتحول دعم الحرف إلى مشروع اجتماعي يُعزز تمكين المرأة ويساهم في تنمية الاقتصاد المحلي.
الخاتمة: التراث الحرفي العراقي ليس مجرد رموز جمالية، بل هو ذاكرة وطنية، وهوية متجذرة، ووسيلة عيش لآلاف الحرفيين. الحفاظ على هذا التراث لا يقتصر على الحنين إلى الماضي، بل هو استثمار في المستقبل، في الاقتصاد، في السياحة، وفي الثقافة الوطنية.
لقد آن الأوان لأن تتكاتف الجهود بين الحكومة، المجتمع، والمؤسسات التعليمية والثقافية لإعادة الاعتبار للحرف اليدوية ودعم من يمارسها. سواء عبر الدعم المالي، أو التدريب، أو التسويق، أو مجرد الاهتمام والتقدير.
علينا أن نعيد للحرفيين مكانتهم، ونرفع من شأن صناعتهم، لأن في كل قطعة يدوية حكاية، وفي كل زخرفة تاريخ، وفي كل حرفة روح العراق الأصيل.