ليلة مطرقة منتصف الليل: تقييم ضربات فوردو وتحديات اليورانيوم الإيراني
في الثالث والعشرين من يونيو، وبعد يوم واحد من الضربات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية الثلاث، وفي مقدمتها منشأة فوردو المدفونة على عمق يتجاوز 90 مترًا تحت جبل سياهكو، بدا واضحًا أن تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بإعلان القضاء الكامل على البرنامج النووي الإيراني، كان متسرعًا للغاية.
![]() |
ليلة مطرقة منتصف الليل: تقييم ضربات فوردو وتحديات اليورانيوم الإيراني |
وقد تجلى ذلك مع بدء الشركات التجارية للأقمار الصناعية، وعلى رأسها ماكسار وأوبن سورس سنتر، بنشر صور جديدة للموقع، تلتها تحليلات متباينة ومتعارضة بشكل جلي، رغم أن جميعها صدرت من مصادر غربية.
آراء المحللين حول الأضرار
الاتجاه الأول من المحللين أشار إلى أن التأثيرات ربما تكون قد وصلت بالفعل إلى أجزاء من المنشأة تحت الأرض، وذلك بسبب استخدام عدد كبير من القنابل الخارقة للتحصينات من طراز GBU-57.
أما الاتجاه الثاني، فرأى أن المنشأة لم تتضرر بشكل جوهري على الأرجح، أو على الأقل أن الصور لا تُظهر انهيارًا فعليًا في الأنفاق أو القاعات الداخلية، وأنها قد تعود للعمل مجددًا.
في حين كان الاتجاه الثالث أكثر حذرًا، إذ صرح بأن هذه الصور بحد ذاتها غير كافية لتحديد حجم الضرر، فنحن نتحدث عن موقع محفور بعمق كبير جدًا، ومحاط بتحصينات إسمنتية وفولاذية متعددة الطبقات. وبالتالي، يتطلب الأمر أجهزة استشعار أرضية، لا مجرد صور جوية، لتقييم الوضع بدقة.
نقل اليورانيوم: نقطة تحول حاسمة
قيمة اليورانيوم المخصب
إن اليورانيوم المخصب بنسبة 60% ليس مجرد منتج يمكن شراؤه، حتى لو توفرت المليارات. فمخزون إيران، الذي يقدر بحوالي 400 كيلوجرام وفقًا للتقديرات الدولية، هو نتاج حصار استمر لأكثر من 20 عامًا، ورحلة شاقة من التنقيب عن خام اليورانيوم منخفض الجودة، وصولاً إلى التطوير المستمر لأجهزة الطرد المركزي واكتساب خبرة علمية محظورة لا تُمنح لأي طرف، مهما كان حليفًا مقربًا. يضاف إلى ذلك بناء شبكة كاملة من المواقع المعلنة والسرية، حيث أُنفقت مليارات وتُضحى بأرواح، وفُرضت عقوبات أثقلت كاهل الشعب، كل ذلك في سياق حرب الوجود التي تخوضها إيران اليوم.
أسئلة تحليلية
لذلك، سيركز تحليلنا اليوم على رحلة اليورانيوم نفسه: أين وُلد؟ كيف خُصب؟ كيف تحرك؟ أين خُزن؟ والأهم من ذلك كله، أين يمكن أن يكون موجودًا بعد الضربة؟ وإلى أين يمكن أن يتجه لاحقًا؟ وفيما يُمكن أن يُستخدم؟
يطرح هذا النقاش سؤالين رئيسيين:
- ما الجديد بعد مرور يوم على ضرب فوردو؟ هل المنشأة لا تزال قابلة للعمل أم أنها انتهت للأبد؟
- ما هي الدلائل على خروج اليورانيوم المخصب من فوردو؟ وأين يمكن أن يكون الآن؟
تفاصيل الضربة الجوية الأمريكية المزعومة على منشأة فوردو الإيرانية: تحليل للحدث وتداعياته
شغل الرأي العام تساؤلات ملحة حول حقيقة الهجوم الجوي الأمريكي المزعوم على منشأة فوردو الإيرانية، وطبيعة الأضرار، ومصير اليورانيوم المخصب. يدور الحديث حول كيفية تنفيذ هذه الضربة، وما إذا كان لإيران مفاعل نووي سري آخر، ومدى إمكانية استخدام اليورانيوم لأغراض عسكرية، ومفهوم "القنبلة القذرة". في هذا التحليل، سنفكك المشهد خطوة بخطوة، معتمدين على التصريحات الرسمية، وتحليلات الخبراء، وصور الأقمار الصناعية.
الرواية الرسمية والتناقضات
كانت وجهة النظر الأمريكية الرسمية، خصوصًا ما أعلنه الرئيس ترامب، مباشرة وصارمة، مدعية أن المنشأة "مُسحت من على الخريطة". لكن المشكلة أن هذا التصريح لم يكن مبنيًا على تقرير رسمي متكامل، ولا على تأكيدات من أجهزة المخابرات. على العكس، صرح البنتاجون على لسان الجنرال دان كين بأن الضربة كانت قاسية جدًا، لكنه لم يتمكن من الجزم بوصولها إلى قاعات الطرد المركزي المدفونة بعمق يزيد عن 90 مترًا. تبنى بعض المسؤولين في الكيان الصهيوني موقفًا مماثلًا، واصفين الضربة بأنها "مؤثرة" لكنها ليست "نهائية".
في المقابل، صرح الجانب الإيراني بأنه لم يقع ضرر لا يمكن إصلاحه، وأن المنشأة لم تتعرض لتلوث إشعاعي وظلت عاملة. ومع ذلك، لم ينكر الإيرانيون نقل اليورانيوم من هناك، في إشارة ضمنية إلى أنهم كانوا يدركون أن الضربة كان من الممكن أن تكون أخطر بكثير لو كان المخزون لا يزال داخل المنشأة.
تحليل صور الأقمار الصناعية والأدلة البصرية
بعيدًا عن التصريحات الرسمية، يُعد تحليل صور الأقمار الصناعية التجارية الدليل البصري الأوضح والأدق المتاح حتى اللحظة. أظهرت الصور الصادرة عن شركتي "ماكسار" و"بلانت لابس" وجود ست حفر واضحة فوق الجبل الذي يقع فوق فوردو، يبلغ قطر كل منها حوالي 25 مترًا، مع آثار رماد رمادي وتراب متقلب، وشبكة من الحفر والندبات حول المداخل. بدت الأرض في المنطقة وكأن شيئًا ما قد اخترقها بالفعل، خاصة حول الممرات الجنوبية الشرقية.
آراء الخبراء والنتائج المتضاربة
نظرًا لأن قاعات الطرد المركزي تقع على عمق يتراوح بين 80 و 110 أمتار، فإنه لا يمكن لصور الأقمار الصناعية وحدها أن تحدد بدقة ما حدث داخل المنشأة. لهذا السبب، انقسم المجتمع العلمي الغربي والأمريكي نفسه حول النتائج.
فمثلًا، صرح ديفيد أولبرايت، وهو فيزيائي وخبير في الأسلحة النووية ومؤسس ورئيس معهد العلوم والأمن الدولي، بأن القنابل وصلت وربما دمرت المنشأة بالكامل. في المقابل، كان ديكر أفليث، محلل الأبحاث المشارك في مؤسسة "سي إن إيه كوبيشن" البحثية، أكثر حذرًا، مشيرًا إلى أن القاعات الداخلية قد تكون سليمة.
كما ذكر مركز الدراسات في واشنطن أنه حتى لو أُغلقت أنظمة التهوية، فلا يوجد دليل على تدمير أجهزة الطرد المركزي نفسها.
- الرماد الرمادي: غطى مساحة كبيرة حول المنشأة، خاصة عند المنحدر الجنوبي للجبل. هذا الرماد ناتج عن التفكك الحراري للطبقات السطحية، ويقدر أنه غطى ما لا يقل عن 100 ألف متر مربع، مما يدل على انفجارات حرارية عالية الكثافة حدثت. لكن لا توجد علامات على حرائق واسعة أو اشتعال ممتد، مما يوضح أن التفجير كان مخترقًا وليس سطحيًا.
- الفوهات الست الرئيسية: تظهر الصور ست فوهات رئيسية فوق الجبل، قطر كل منها حوالي 25 مترًا، وموزعة على خط استشعار أرضي.
النقطة الحاسمة: نقل اليورانيوم المخصب
على الرغم من كل التباين في الآراء، اتفقت معظم الجهات على نقطة واحدة حاسمة: نجحت إيران في نقل مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% من المنشآت الرئيسية، وخصوصًا فوردو، إلى أماكن أخرى غير معلومة قبل الضربة. تُعد هذه لحظة فارقة في الملف النووي الإيراني، حيث يُعد اليورانيوم المخصب بنسبة 60% ليس مجرد منتج يمكن شراؤه. تقدر الكمية بحوالي 400 كيلوجرام حسب التقديرات الدولية.
تحملت إيران لأجلها حصارًا تجاوز 20 عامًا، ورحلة شاقة من التنقيب عن خام اليورانيوم منخفض الجودة، وصولًا إلى التطوير المستمر لأجهزة الطرد المركزي واكتساب خبرة علمية محظورة. لقد أنفقت مليارات الدولارات، وضحت بأرواح، وعانت من عقوبات اقتصادية شديدة.
لذلك، تحول التركيز العالمي الآن من المنشآت إلى المادة نفسها، أي اليورانيوم المخصب. السؤال الأهم هو: أين يوجد هذا اليورانيوم بعد الضربة، وإلى أين يمكن أن يُنقل، وما الذي يمكن أن يُستخدم فيه؟
تساؤلات جوهرية: ماذا حدث بعد مرور يوم على الضربة على فوردو؟ هل المنشأة ما زالت قابلة للعمل أم أنها انتهت للأبد؟ وما هي الدلائل على خروج اليورانيوم المخصب من فوردو، وأين يمكن أن يكون الآن؟
ما الذي دُمر فعلاً في فوردو؟
تُظهر صور الأقمار الصناعية أضرارًا في منشأة فوردو، وتحديدًا ست فوهات مائلة نحو الجنوب الشرقي، ما يتوافق مع زاوية سقوط القنابل التي يُعتقد أنها أُسقطت من ارتفاعات عالية بمسار قوسي لضمان الاختراق الرأسي. ومع ذلك، يطرح هذا العدد من الفوهات تساؤلات، لا سيما أن التقارير تشير إلى استخدام 14 قنبلة.
هناك عدة تفسيرات محتملة لهذا التباين:
- استهداف النقطة ذاتها: قد تكون قنابل متعددة استهدفت نفس النقطة لتحقيق اختراق أعمق، وهي طريقة شائعة في استهداف المواقع المحصنة. لكن دائرية الثقوب الظاهرة تثير الشك حول إمكانية دخول قنبلتين أو ثلاث من نفس النقطة بهذه الدقة، خاصة مع سقوطها من ارتفاع شاهق.
- استهداف منشآت فرعية أو فتحات تهوية: من المحتمل أن بعض القنابل استهدفت مداخل التهوية أو المنشآت الفرعية، والتي قد لا تظهر ثقوبها بنفس الوضوح في الصور المتاحة حاليًا.
تؤكد صور مقارنة مداخل الأنفاق قبل وبعد الضربة هذه الفرضية، إذ يظهر تغير واضح في شكل بعض المداخل، خاصة تلك الموجودة في الجنوب الشرقي. إحدى هذه المداخل كانت واضحة جدًا قبل الضربة، ولكنها أصبحت شبه مدفونة بعد ذلك، مع وجود آثار تسوية أو طمر للتربة حولها.
قد يكون هذا نتيجة انهيار ناجم عن ضربة مباشرة، أو بسبب عملية تحصين مسبقة، خاصة وأن الأقمار الصناعية رصدت نشاطًا غير طبيعي في الموقع قبل الضربة بيومين، حيث كانت الشاحنات والجرافات تعمل حول المداخل. هذا النشاط يدعم الرواية الإيرانية بأنهم نقلوا اليورانيوم قبل الضربة.
المقاومة الجيولوجية للموقع وأثر القنابل
يُشير التحليل الجيولوجي لمقاومة الجبل إلى أنه يتكون من طبقات رسوبية شبه متماسكة، ليست بصلابة الجرانيت ولكنها ليست هشة أيضًا. هذا يعني أن القنابل يمكن أن تخترق من 15 إلى 20 مترًا فقط داخل الجبل.
وهذا العمق غير كافٍ للوصول إلى القاعات المدفونة على عمق يتراوح بين 90 و100 متر تحت سطح الأرض، إلا إذا كانت هناك نقطة تهوية أو نفق عمودي تم استهدافه بدقة، وهذا احتمال وارد ولكنه غير مؤكد.
الاستنتاج حول الضربة وأثرهاالنتيجة العامة هي أن الضربة أثرت على المنشأة من الأعلى وعطلت المداخل ونظام التهوية والقدرة على التشغيل. ومع ذلك، لا يوجد أي دليل بصري يؤكد أن القاعات السفلية قد تعرضت للضرب فعليًا. الأرجح، بناءً على التحليلات المتاحة من مؤسسات موثوقة، أن المنشأة قابلة لإعادة التشغيل.
ننتقل الآن إلى الموضوع الأكثر جدلاً، وهو قضية اليورانيوم المخصب الذي يُزعم تهريبه. تُظهر صور نشرتها "ماكسار" أمس نشاطًا غير عادي لشاحنات نقل حول فوردو، يُرجح أنها كانت تنقل اليورانيوم إلى جهة غير معلومة. لتتبع مسار هذا اليورانيوم، يجب أن نفهم كيف وصل إلى فوردو في المقام الأول.
خاتمة: بين المطرقة والرماد... ضربة فوردو تكشف هشاشة القوة وحكمة الاحتياط!!! ليلة 23 يونيو لم تكن فقط مشهدًا دراميًا على شاشة التحليلات العسكرية، بل كانت لحظة مفصلية في تاريخ البرنامج النووي الإيراني. فالضربة الجوية التي استهدفت منشأة فوردو، ورغم دقتها التكنولوجية وتوقيتها السياسي، لم تُسفر عن نهاية مؤكدة، بل فتحت بابًا واسعًا للتساؤلات، وأبرزت بوضوح أن المعركة الحقيقية لم تعد فقط في استهداف المواقع، بل في تتبع المادة النووية ذاتها.
ما بين الروايات الرسمية المتضاربة، والتحليلات الغربية المتباينة، وتأكيدات الأقمار الصناعية التي لم تحسم الأمر، بقي سؤال جوهري يتصدر المشهد: "أين ذهب اليورانيوم المخصب بنسبة 60%؟" فالنظام الإيراني أثبت في هذه الضربة على الأقل أنه أجاد فن التحرك في الظل، وتمكن من نقل أغلى ما يملك في لحظة مفصلية، تاركًا الخصوم أمام جدران مهشمة وسقف من الغموض.
وهنا تتجلى الحقيقة الصلبة: لا يكفي أن تمحو منشأة من على الخريطة، بل الأهم أن تعرف ماذا كانت تحتوي، ومتى وكيف غادرت محتوياتها، وإلى أين توجهت. إنها لحظة نادرة تكشف حجم الفجوة بين القوة التدميرية وبين القدرة على السيطرة المعلوماتية.