صابئة شهربان" اين هم؟
كتب صديقنا أبن شهربان مقال بعنوان صابئة شهربان اين هم؟ شجن وذكريات عن صابئة شهربان واين هم رحلوا؟ كل تلك الاسئلة أختزلت بسؤال واحد. احبتنا صابئة شهربان لكم مني هذه الذكريات.
كلما انتهت حرب نتنفس الصعداء ونقبل الأمر الواقع ونقول هذه اخر الأحزان وننسى ونداوي جروحنا ونحبس أحزاننا في صدورنا ... نتعامل مع من فقدنا مثل كنوز ثمينة موضوعة على رفوف القلوب وعلى شغافها. لكن ما هي إلا سنه أو سنتين. وندخل حرب جديدة باسم جديد وبرامج جديدة ~ حروب ...حروب.... حروب ...
لقد تحمل الشعب العراقي الصابر تلك الحروب وحمى نفسه من التأكل او التصدع ... نعم فقدنا مليون شهيد أو اكثر لكن بقينا في ديارنا و بقيت الجيرة والديرة الى أن حلت الشمطاء أم الحروب...
مجلة شهربان الألكترونية- SHAHARBAN MAGAZINEالى أن حلت الطائفية وصرنا لا نرى الحد الفاصل مع العدو الذي كنا نراه أو نسمع به في سابق حروبنا. صرنا لا نرى حدود أو جبهه ... كوننا نحارب بعضنا واعدائنا شامتون.
لقد انجزنا لهم بأيدينا ما كانوا يتمنون... فحصلت اكبر موجة نزوح في تاريخ العراق... هجرة داخلية بكل الاتجاهات و هجرة خارجية عبر الحدود... إذْ توزعنا على خارطة العالم... وصار كل واحد تحت نجمه وابتلعت البحار والمحيطات قسما منا...
ماهي ديانة الصابئة من أين جاءت وتاريخ ارتباطها بالعراق.
لكن هناك طوائف سكنت العراق قبل العرب وسكنت شهربان منذُ مئات السنين قد نضبت نهائيا... تلك هي الخسارة الكبيرة... ومنهم أحبتنا صابئة شهربان ... وينهم ؟؟
الصابئة هي أحد الأديان الإبراهيمية وهي أصل جميع تلك الأديان لأنها أول الأديان الموحدة... وأتباعها من الصابئة يتبعون أنبياء الله آدم… شيت... إدريس… نوح… سام بن نوح… يحيى بن زكريا.
يطلق عليهم في اللهجة العراقية. " الصبّة " كما يسمون المندائية. كلمة الصابئة مشتقة من الجذر (صبا) الذي يعني باللغة المندائية اصطبغ... غط أو غطس في الماء... وهي من أهم شعائرهم الدينية.
بذلك يكون معنى الصابئة أي المصطبغة بنور الحق والتوحيد والإيمان... تدعو الديانة الصابئية للإيمان بالله ووحدانيته مطلقاً لا شريك له واحد أحـد ...
الصابئة ملتصقين في الماء مثل الطيور المائية... يتعمدون فيه ويتطهرون من ذنوبهم وكأنهم جزء من الطبيعة وأحد رموزها.
الصابئة ودورهم في العراق قبل أحتلال العراق.
قبل العام ٢٠٠٣ كان عدد الصابئة في العراق يقدر بحوالي ٧٠ ألفا. أما الآن في أفضل التقديرات تشير إلى أن عددهم تراجع إلى أقل من عشرة آلاف-
بعد اضطرار غالبيتهم العظمى إلى الهجرة إلى خارج العراق بسبب تعرضهم للقتل والتهجير والخطف في مختلف أرجاء العراق.
على صغر نسبة هذه الشريحة العراقية الأصيلة إلا أنها ساهمت بشكل إيجابي ملحوظ في خدمة هذا البلد ~ وان كنا فعلاً منصفين فانهم ربما من اقدم من سكن بين النهرين ...
ظهر من بينهم رموز ومتميزين منهم عالم الفيزياء وأول رئيس لجامعة بغداد وأحد الطلبة الأربعة في العالم للعالم ألبرت آينشتاين العالم عبد الجبار عبدالله.
ومنهم الشاعر الشهير عبد الرزاق عبد الواحد الملقب بمتنبي القرن العشرين فضلا عن العشرات من اساتذة الجامعة و في شتى مفاصل المعرفة في العراق الحديث ...
الصابئة المندائين اشتهروا بولائهم المطلق للعراق على مر السنين والتعلق بأنهاره ومسطحاته المائية والتصقوا به وعاشوا كالطيور المائية على ضفاف أنهارها وفي اهوارها و لم يفارقوها طوال السنين...
لكن... وآه من كلمة اللاكن... يد الشر التي خربت العراق وهجرت عقوله. هجرتهم فخرجوا منه بقلوب مكسورة أضناها الحنين لشهربان ولبغداد وللبصره والعمارة ولغيرها.
تهجير صابئة شهربان الى أصقاع دول أخرى؟
نالهم التهجير وفروا من شهربان مع اللقالق والبلابل والسنونو وباقي الطيور المهاجرة. انهم خسارة عراقيه كبيره اخرى لن تعوض مدى الزمن. أذْ من من المستحيل جمعهم من جديد فقد توزعوا على خارطة العالم وان كان بلدهم قد تخلى عنهم فقد احتضنتهم بلدان غيره.
هي خسارة عراقيه تشبه خسارته لليهود بعد العام ١٩٤٨ اثر مؤامرة مدبرة منفذيها إسرائيل وحكام العراق آنذاك ودول اخرى ~ وهذه الأبيات الحزينة للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد تعبر عن حالهم:
" عدْ بي لبغداد أبكيها وتبكيني دَمعٌ لبغداد ...
دَمعٌ بالمَلايين ِ عُدْ بى إلى الكرخ ...
أهلي كلهُم ذبحُوا فيها...
سأزحَفُ مَقطوع َالشرايين ِ
حتى أمُرَّ على الجسرَين ...
أركضُ في صَوبِ الرَّصافةِ ما بينَ الدَّرابين ِ
أصيحُ : أهلي ... وأهلى كلهُم جُثثٌ
مُبعثرٌ لَحمُها بينَ السَّكاكين ِ"
إن كانت شهربان وطيوفها المختلفة هي لوحة رسمها فنان محترف فإن أهلنا الصابئة هم كاللمسات الأخيرة لانسياب الفرشات قبيل التوقيع عليها... وان كانت شهربان هي سيمفونية ألفها موسيقار بارع... فان الصابئة هم اللحظات التي تفصل نوتات العزف الجميل قبل أن تلامس القلوب ..
فقد كانوا وجوه أليفه مسالمة مثل طيور السنونو ومثل حمائم شهربان...هم بيننا لكننا لا نسمع بمشاكلهم ولا نشعر بخطواتهم حين يسيرون خلفنا. لا نعرف كيف ومن أين يأتون بالذهب والفضة وحامض التيزاب ومواد اللحام...
كل الذي نعرفه ونراه هو سلاسل وأساور وأقراط وعقود الذهب والفضة معلقه بأناقة في فاترينات محلاتهم تزهي على ضوء المصابيح... وجوهم الضاحكة التي تطفح منها الحميمية إن دخلت الى محلاتهم ودكاكينهم.
بشر يحترم المقابل ويحترق حتى يسعدك... وان تعاملت معهم على قلادة أو سوار أو غيره لن يتركونك تخرج وانت غير سعيد... كمبدأ هم جاهزون في كل وقت كي يشترون صداقتك بأي ثمن ~ حتى وان كانت الصفقة خساره...
العلاقة الطيبة بين مجتمع شهربان والناس المسالمين أخوتنا الصابئة.
عني لم اشعر ذات يوم بأنهم على غير ديني لأنهم لا يقحمون ديانتهم الأصيلة في نقاش جاد كان أو هزل... بشر متزن مقتنع مسالم يحترم المقابل صفقته معك وختمها وشهودها ومحاميها هو مصافحة اليد ( shake hands ) والنية الصافية فقط.
عرفناهم جيران ولعبنا معهم أطفال... دخلنا بيوتهم وشاركناهم الزاد... بشر مسالم حميم يتعب كي يريحك لا تسمع منه شيء غير الود و الابتسام... لم نكن نعرف أو نهتم كيف يمارسون تقاليدهم الدينية...
هم يمارسونها بهدوء خافت مثل سلطان الوسن يحتل عيونك ولا تشعر به. كانت المرات الوحيدة التي نشعر بغيابهم هي حين ينعزلون عن العالم ليوم أو يومين يسمونه "عيد الختله.
حتى في أيام "عيد الختله أحياناً نتبادل نحن الأطفال المشاغبين تفاصيل شغب الأطفال من خلال النوافذ أو شرفات البيوت. لم نسألهم يوماَ عن دينهم أو طرائق عباداتهم فهي تخصهم... ما يخصنا هو طيبتهم وحميميتهم وولائهم وإخلاصهم لصديق.
لا اعتقد أن شخص من شهربان... خصوصاً أبناء جيلي لا يعرف "الصبة أو يصادق أحد أولادهم أو يزاملهم على مقاعد الصف في المدارس... وقد حصلت حالات حب عنيف بين الشباب من كلا الطرفين وقسم منها انتهى بالزواج متحدين التقاليد والأعراف والأحكام.
الصابئة يجيدون التجارة بالصوغات الذهبية وصناعتها.
أحبتنا صابئة شهربان جزء زاهي من مجتمع شهربان الزمن الجميل... لا اعتقد بان واحدة من بنات شهربان الجميلات لم تقتني ذهبها وفضتها منهم... كل حلي عرائس شهربان من محلاتهم.
يجيدون مهنتهم ويجيدون فن التعامل مع الزبائن... إذ لم ألاحظ أحدا منهم يتعامل مع زبون بدون الابتسامة التي تسبق الكلام ~ ولم اسمع بان أحداً قد اشتكى من تعاملهم أو أسعارهم.
هم بشر يتقن الهدوء مثلما يتقن حرفته ولم اسمع ان احد من أطياف شهربان الأخرى قد نافسهم على مهنتهم الفريدة تلك. كلنا نعرف مهنتهم... صياغة الذهب والفضة و باقي المجوهرات... الحرفة التي اشتهروا وتميزوا بها على مر السنين فيما انخرط أبنائهم من أجيالنا في الوظائف ومنها التعليم وتميزوا.
هل اذكر أسماء البعض منهم ... لقد درس البعض منا اثنان من ألمع المدرسين: السيد عبدالكريم العيداني أستاذ التاريخ القديم وكان هذا البارع موسوعة علميه بتاريخ العراق القديم . وأستاذ الكيمياء حميد عامر والأخير لم يدرسني بل سمعت بنبوغه وثراء علمه من أصدقائي آنذاك.
اجيال الخمسينيات والستينيات من زملاء المدرسة.
ثم أن أجيال الخمسينات والستينات وما بعدها لا بد أن يتذكرون المربي الجليل لازم الخميسي... حيث عمل لعدة عقود معلم وإداري في مدارس شهربان الابتدائية ... ولابد أن يتذكرون أولاده فائقي الأدب والأخلاق وهم الآن أساتذة جامعات كبار:
الاستاذ الدكتور رفعت والأستاذ الدكتور عادل والسيد بهجت وقد كان من أصدقائي المقربين وأخرين... من منا لا يعرف بيت جهيد وامجد هامل وبشار وماجد عكرب...
وبيت أصدقائي الرائعين عبد الخالق ( أبا ليث و مثنى ) وعبد الوهاب عبد ( أبو نور )... وبيت هادي ( أبو طيف) وبيت نعيم ( أبو سلام ) واخرين والأسماء كثيره كثيره ... حسب معلوماتي الشحيحة...
فإن من بقي منهم في مدينة شهربان هو رجل و زوجته و كلهما مريض مع ابنتهما... وإن رأيتموهم أحبتي آهل شهربان ضعوهم في مآقي عيونكم ولكن وصيتي أن لا تذكر أسمائهم هنا أو في أي مكان.
لقد هاجروا أحبتنا الصبه ..... فمن ذا الذي احتل أعشاشهم من البوم والغربان ؟ ... ومن أذن يسك حلي ومجوهرات المهر لجميلات مدينة عشقي شهربان و عرائسها وأميراتها:
يا دار جيت انشدج يا دار دلِّينـــــــــي
عن ساكنيج ارحلو ليوين خــــــــبريني
من كثر صب الدمع ما وجِّد ابعـــــــيني
ردَّد علي الصدى ما ظنتي ايعـــــــودون
***********
بقلم ... ابن شهربان_ Ibin Shahraban AH.