صاحب مقهى جاسم يوبه" محطات وذكريات شهربانيه.
بقلم... عامر كامل الخياط
عندما تغلق ستارة مسرح الحياة تبقى الذكريات من سوق المقدادية مع ,صاحب مقهى جاسم يبه. جاسم محمد ياس محطات وذكريات شهربانيه. هكذا هو بوح القلم.
في أواخر خمسينات وأوائل ستينات القرن الماضي كانت مدينتي الهادئة المقدادية "شهربان" الواقعة على منتصف الطريق بين مركز لواء ديالى "بعقوبة" ومدينة خانقين المحاذية لحدود "ايران.
التي يخترقها نهير يتفرع من نهر ديالى عند منطقة الصدور حيث يجثم سد ديالى الغاطس والذي يعمل على رفع المنسوب حتى يخرجه من المنافذ الجانبية والتي يذهب كل منهما في إتجاه ,
ومن الجانب الأيمن كانت يخرج خمسة منافذ ولا تزال هي على التوالي :
الروز - الهارونية - الشاخة - مهروت - خريسان.
من الجانب الأيسر يتفرع نهر الخالص
كانت شاخة مدينتي تتلوى كالأفعى في حركتها بين بيوتات المدينة التي يمتلك معظمها " مسناية صغيرة " هي عبارة عن ثلاثة إلى خمس درجات تنزل إلى مستوى الماء في الشاخة، هنالك كنت ترى الفتيات والنساء في كل صباح أما يغسلن الأواني أو يقمن بشطف الملابس.
في وسط المدينة وعلى إحدى التواءات النهر أقيمت مقهى " مانع " وفي الشارع الذي يخترق قلب المدينة كانت هناك مقاهي عدة لعل من أشهرها " مقهى أبو غصوب ومقهى سفر ومقهى جاسم يبه.
وفي الشارع الرئيس خارج البلدة كانت المقهى الشهيرة مقهى كريم كله التي اشتهرت بكونها محطة استراحة الباصات التي تنقل الزوار الإيرانيين بين طهران وبغداد حيث مرقد الجوادين في منطقة الكاظمية.
محطات وذكريات شهربانيه.
محطتي اليوم ستكون عن صاحب مقهى جاسم يوبه" جاسم محمد ياس ومقهاه التي أسسها في بداية الخمسينيات من القرن الماضي.
ففي تلك السنين كانت هناك انقسامات كبيرة بين أبناء البلدة خلفتها انتماءاتهم الحزبية وتعصبهم لها.
- فقد أتخذ القوميين العرب والبعثيين من مقهى أبو غصوب شبه مقر لهم ولقاءاتهم.
- والشيوعيين واليساريين من مقهى رحمن سفر مقرا ً لهم ولقاءاتهم.
- وكان الوطنيين والقاسميين بعد الثورة مستقرهم في مقهى العم " جاسم يوبه .
كان العم مولعا ً بشراء بطاقات اليانصيب التي قسمت ما بين اليانصيب الوطني العام ويانصيب إنشاء المستشفيات , ...... إلخ، هكذا كان أبي أيضاً.
كان القاسم المشترك بينهما هو بائع تلك البطاقات وأسمه علي وهو شخص كريم في عينه اليمنى وكان يأتي من بغداد في أحد باصات الخشب التي كانت تنقل المسافرين والبضائع بين مدينتي شهربان والعاصمة بغداد.
لقد كان عدد الباصات أثنتان العاملة على خط مدينتي وبغداد والذي يصل شهربان صباحا ً ويعود إليها في الباص الثاني الذي ينطلق مساء ً ليبيت في الشورجة ويعود مساء اليوم التالي محملا ً بالبضائع .
من خلال قاسمهما المشترك نمت بينهما علاقة صداقة قوية ارتقت في كثير من الأحيان إلى مستوى الإخوة وربما أعلى.
اقترنت بخيبات كبيرة لحظيهما في بطاقات اليانصيب في كثير من الأحيان عندما يجري السحب الشهري لذلك اليانصيب أو هذا.
من أجمل المشاهد العالقة في ذهني هو تمزيقهم عشرات الدفاتر لتلك البطاقات بعد أن يرون أنها لم تظهر أرقامها في " لستة " السحب.
عندما كنت أسألهم لماذا لا تشترون بطاقات مفردة حالكم في ذلك مثل حال الآخرين , كان جوابهم حاضرا ً وهم يضحكون :
-" لك بابه إذا طكت بيدنه الجائزة الأولى أو الثانية والثالثة فحتى ناخذهه هيه والشمل ".
الشمل هذا كان مصطلح يشمل البطاقات التي تحمل تسلسل ما قبل وما بعد الرقم الفائز.
حيث كان الدفتر يتكون من عشرة بطاقات، الرقم الفائز بالكبرى مقدارها سبعة آلاف وخمسمائة دينار وشمله تحصل على مائة دينار للبطاقة الواحدة .
لم يحدث ولا مرة أن رأيتهم يفوزون حتى بالبطاقات التي تفوز بمبالغ ضئيلة قياسا بالجوائز الثلاث الأولى، وما يليها وأعني بذلك البطاقات الفائزة بمبلغ عشرة أو خمسة دنانير إلا ما ندر .
ولا في تاريخ المدينة أن حدث هذا إلا في مرة واحدة وهي فوز المرحوم " فرحان جليب علي " بالجائزة الأولى ليانصيب إنشاء المستشفيات منتصف ستينات القرن الماضي.
العم "جاسم يبه" شخصية لطيفة ومحبوبة تأسر المتلقي لها وما تحدثه به من خلال الصفات والأخلاق الحميدة التي يتمتع بها طيلة حياته.
التي لم يحيد عنها ولو قيد أنملة وشهد ويشهد له بها القاصي والداني ممن عرفوه وكانوا له من المعاصرين .
من مواقف جاسم يوبه" الإنسانية الفذة التي عبرت عن تلك الأخلاق … أذكرها لأنها ظلت محفورة بالذاكرة طيلة أكثر من نصف قرن .
كان بعض المتسولين يأتون إلى المدينة من خارجها وربما من بغداد وضواحيها وعندما يصلون إلى مقهاه كان يطلب منهم التوقف قليلا ً عند الباب ويطلب من أقرب شخص إليه من الجالسين في المقهى أن يأخذ مكانه.
ينهض هو حاملا ً " الصينية " المدورة مصطحبا ً المتسول في جولة في المدينة ومن ذا الذي يرى " أبا نصيف" حاملا ً الصينية ولا يلقي بها شيئا ًمن النقود، ليعود بعد ساعة أو أكثر وقد امتلأت الصينية بالقطع النقدية المعدنية والورقية .
يطلب من المتسول الجلوس جانبه ويطلب له الغذاء والشاي وفي نفس الوقت يطلب من أحد الزبائن كشاهد أن يحسب حصيلة الجولة، وأنا مسؤول عن كلامي هذا.
في إحدى المرات كانت امرأة متسولة إذ كانت الحصيلة تناهز المائة وعشرين دينارا ً. وقد سمعته يقول لها :
هذا المبلغ كبير جدا ً ويكفي لشراء بيت في أي مكان إضافة لما يزيد منه وبإمكانك اختيار أي مصلحة لك ولأولادك، لكن حذار إن رأيتك قادمة إلى البلدة للتسول مرة أخرى ستكون العاقبة وخيمة.
في ليال رمضان كنت أسهر مع والدي في محل الخياطة العائد له وسط السوق حتى موعد صلاة الفجر وكان يسامرنا هو إنسان رائع إنه الأستاذ المربي الفاضل " محمود شكري~ أبو كارم " وهم يستمعون لأغاني السيدة أم كلثوم التي تبدأ إذاعة الكويت بتقديمها في الساعة الثانية عشرة ليلا ً ثم الإذاعات الأخرى بالتوالي .
ثم نتمشى جميعا ً من محل والدي إلى مقهى العم "جاسم" قبل حلول موعد الآذان لنشرب الشاي ويقوم العم بغلق المقهى ومن ثم نتوجه إلى بيوتنا التي كانت متقابلة ويفصل بينها الشارع الرئيسي وبالواقع ان بيتنا لم يكن ملكاً لنا بل كانت تعود ملكيته للعم جاسم يبه ونحن كنا مستأجرين لديه.
إلى أن حل رمضان في سنة من السنين صيفا ً وكنا ننام فوق السطوح وبعد عودتنا من المقهى فجرا ً قمنا بوداعه متمنين له ليلة جميلة هانئة، لم تكن سوى دقائق تمددنا فيها على الفراش وإذا بالصرخات تأتي من جهة بيتهم، هرولنا وبسرعة أنا ووالدي وإذا به ممددا ً وقد فارق الحياة.
لأول مرة في حياتي أحسست بأني فقدت حصة ثمينة من حياتي، لأول مرة بكيت حتى الصباح وأنا تجرأت يومها أنا ووالدي لمساعدة الشخص الذي قام بغسله وتكفينه.
ما حصل لي لم أمر به حتى بعد وفاة والدي بعده بأعوام كثيرة، لا أعتقد بأن ذلك حصل فقط لكن إعتزازي بشخصيته بقدر ما ولد شعوراً كبير بالإحباط بأن الإنسانية قد خسرت من كان لها مثالا ً حيا ً يمشي على قدمين .