شعرية الرؤى الوجودية
في رواية (تلك أسفاره)
لعلي حسين يوسف
د.غزوان علي ناصر
إن التجربة الإبداعية الناجحة هي التجربة التي تترك أثرها العميق في نفوس المتلقين، وتتحدى متغيرات الزمن وتقلباته، وأحسب أن مؤلف رواية (تلك أسفاره) الدكتور علي حسين يوسف قد نجح في إيصال تجربته الإبداعية للمتلقي بسهولة ويسر.
فالرواية تمتاز بأسلوبها الأدبي الرشيق، وابتعادها عن الغموض والتعقيد، وعاطفتها المتوهجة، وعمقها الفكري، وتسلسل أحداثها الدرامية المتلاحقة على طول صفحاتها.
ولأن الكتابة الإبداعية لا تتأتى من فراغ، وإنما تولد من رحم المعاناة، ومن تشظي الذات المبدعة، فما يرويه المؤلف عن لسان شخوصه في (تلك أسفاره) لا يمثل بالضرورة همومه الفردية أو تصوراته الذاتية بمعزل عن الآخرين.
وإنما هي هموم ممكن أن تمثل معاناة مشتركة بين الناس أكثرهم؛ لذا نراه يتحدث عن لسان شخوصه وعن تلك القضايا وهي كثيرة إذ تطالعنا في (تلك أسفاره) الثنائيات الجدلية منها حضور ثنائية الموت والحياة، الحب والفراق، الفرح والحزن، الجهل والعلم، العبودية والحرية، القرية والمدينة، الحرب والسلام، السلطة والمثقف وغيرها من الثنائيات الجدلية التي كانت وما زالت تشغل حياتنا، وتثير فينا المشاعر المتباينة.
الرواية ـ بعد ذلك كله ـ تتحدث عن حقبة زمنية مضطربة من تاريخ العراق الحديث.
بطل الرواية يدعى (محسن) يعمل في معمل للطحين وفي أحد الأيام يختفي فجأة وهو في طريق عودته إلى البيت.
محسن هذا يمثل طبقة المثقفين المتمردة والمسحوقة من قبل السلطات!
تتسم شخصية محسن بعمق التفكير وقوة التأثير ورهافة الحس فهي على درجة عالية من الوعي وذات طموح وآمال محملة برؤى وأفكار عميقة تدور حول الوجود وتمثلاته.
وأحسب أن المؤلف قد نجح في صناعة هذه الشخصية وتقديمها للقارئ بأسلوب فني جميل مشحون بالعاطفة ومصطبغ بجمال الخيال ودقته.
يبدو أن المؤلف اتخذ من هذه الشخصية قناعا يختفي خلفه هو نفسه، ليتحدث من خلاله عن فلسفته بالحياة.
أما ما يخص شخصيات الرواية الأخرى فهم ينحدرون من طبقات وبيئات مختلفة وكل شخصية تم توظيفها في الرواية تمتاز عن غيرها بسمات خاصة فهم مختلفون في الطباع والثقافة ووجهات النظر.
إن الحقبة التاريخية التي اختار المؤلف أن يكتب عنها وينقل لنا مشاكلها وإشكالياتها جاء عن مقصدية واضحة ففي تلك الحقبة ألقت السياسة بكاهلها على الناس.
تبدأ الرواية بمدخل مقتضب يتضمن نصاً نثرياً غزلياً مؤثراً يرتبط بشخصية المريضة (سارة) التي يتضح فيما بعد أنها زوجة بطل الرواية (محسن)؟ يستشف منه حجم الحب الكبير لزوجها وشدة تألمها لفقدانه.
بعد ذلك تتوالى أحداث الرواية تباعاً فهي مقسمة على شكل أسفار، يسير فيها السرد على مستويين:-
المستوى الأول - يتمثل بلقاء المريضة (سارة) بالدكتور الذي التقت به في عيادته من أجل علاجها الذي يظهر فيما بعد أنه الصديق المقرب من زوجها المفقود (محسن) .
يبدأ السرد في المستوى الأول بالفعل الماضي (أصبحتْ) وبضمير الغائب (هي) ويدور حول أحوال الزوجة المفجوعة بفقدان زوجها وحبيبها (محسن)...
(أصبحت تلك المخلوقة حديث الناس، وما أشد شغف الناس بالثرثرة عن الغرباء)، يستمر بعدها السرد بلغة شعرية مؤثرة يرتفع فيها منسوب العاطفة والحزن لتتصاعد الأحداث بعدها وتتسع التفاصيل.
أما المستوى الثاني- فقد تركه المؤلف لفطنة القارئ كي يكتشفه بنفسه.
نجد في رواية (تلك أسفاره) أن السرد والوصف وتتعدد الحوارات بين شخوصها واحتدامها تتنوّع بطريقة تنم عن وعي بالشغل السردي؛ رغم أن ذلك يعزى ظاهراً لأسباب تتعلق بتتابع الأحداث وتنوّع الأماكن واختلاف الأزمنة على طول الرواية.
اللافت في (تلك أسفاره) أننا نجد فيها تداخل الأجناس الأدبية بشكل متناسق ومتناغم إذ تتماهى تلك الأجناس مع الخطاب السردي الذي صار يجمع بين السرد والوصف والشعر بنوعيه الفصيح والشعبي والأمثال المشهورة والأقوال المأثورة والاقتباس من القرآن الكريم.
لعل أبرز التقنيات التي وظفها المؤلف الدكتور علي حسين يوسف في روايته هي الاسترجاع والتناص .
فهو أحيانا يأخذنا معه إلى رحلة في أعماق التاريخ ليسرد لنا على لسان شخوصه بعض الأحداث التاريخية ويربطها بالسياق الذي وردت فيه.
وأما التناصات فيلفتنا المؤلف في روايته إلى التوظيف الواسع لهذه التقنية الأسلوبية على طول صفحاتها، وقد يكون من أبرز مقاصد هذا التوظيف هو خلق لغة شعرية متوهجة في التعبير واكتساب السرد حركة ديناميكية مرنة تشد القارئ فضلا عن التشويق والإثارة والاقتراب من وجدان المتلقي .
بالعودة إلى عتبة العنوان بوصفه دالاً رمزياً على مضمون الرواية أذ أنه يفتح الباب أمام القارئ ليلج عوالمها ويكون له عونا ومرشدا في كشف رموزها وفكّ أسرارها فقد جاء العنوان (تلكَ اسفارهُ) متماهياً مع لوحة الغلاف ومضمون الرواية.
إن استعمال المؤلف للاسم الموصول (تلكَ) يُحيل في دلالته على البعد، وجاءت من بعده كلمة أسفاره صلة الموصول التي هي جمع لكلمة (سفر) التي تصح أن تأول بمعنى الكتاب في حالة كسر حرف السين مثلما تأول بالرحلة والذهاب في حالة فتح السين فهذه المفردة تمثل علامة مهمة تحيل إلى أحداث حياة البطل بعدما رحل عنّا فلم يترك خلفه سوى أسفاره التي تذكرنا به.
هذا ما تحيل إليه أيضا لوحة الغلاف إذ أن هذه الثيمة تشي إلى معنى الفقد والغياب القسري بسبب بطش السلطة الحاكمة وتسلطها على أرواح الناس وسلبها الحريات المدنية.
مما يلفتنا أيضاً في هذه الرواية أنها حافلة بذكر أسماء أعلام مشهورين في مجالي الأدب والفلسفة خاصة، وهذا يشي بسعة اطلاع المؤلف وإلمامه بكثير من قضايا هذين الحقلين المعرفيين وهو أيضا يدل بوضوح على تأثره الواضح بالفلسفة.
وقد تجلى هذا الأمر واضحاً في بعض النصوص الحوارية التي يجريها المؤلف على لسان شخوصه وفي مقدمتهم بطل الرواية محسن الشاب المثقف جداً .
وبعبارة أخرى فإن هناك متسعاً لمن يريد الخوض في تحليل النصوص الواردة في متن الرواية، وإبراز قيمتها الجمالية والشعورية، والوقوف على موحياتها الدلالية، وما تنطوي عليه هذه التجربة الإبداعية من تميز واجادة.