قصة اكتشاف عالم الحشيشة وتأثيرها على المجتمع ونهاية شبكتها في العراق شيء من الماضي.
في حقبة مضت من تاريخ العراق، شهدت مدينة شهربان تحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة نتيجة للسياسات الدبلوماسية والانفتاح الثقافي مع الجارة إيران. تميزت تلك الفترة بتدفق الزوار الإيرانيين إلى العتبات المقدسة، مما أدى إلى ازدهار الحركة التجارية والنشاطات الاقتصادية في البلد والمدينة.
لكن هذا الازدهار لم يخلُ من جوانب سلبية، حيث انتشرت ظاهرة تعاطي الحشيشة بشكل ملحوظ بين بين شباب البلد والمدينة، مما أثر على نسيجها الاجتماعي وصحتها العامة. في هذه السلسلة من القصص نستعرض قصة اكتشاف عالم الحشيشة وتأثيرها المدمر على المجتمع، وكيف نجحت السلطات في نهاية المطاف في تفكيك شبكات المخدرات التي كانت تنشر هذا الوباء، تاركةً وراءها درسًا قاسيًا من الماضي.
العلاقات الدبلوماسية العراقية-الإيرانية في عهد الأخوين عارف وتأثيرها على شهربان.
في عهد الأخوين عارف بين 5 أيلول 1963 و حتى 17 تموز 1968 شهدت العلاقات الدبلوماسية بكافة أوجهها مع إيران الشاه عصرها الذهبي , و كانت المدينة خير شاهد على ذلك الأوج والتألق , فكانت قوافل الزوار الإيرانيين للعتبات المقدسة في الكاظمية والنجف و كربلاء وسامراء مصدر إزدهار للحركة التجارية في المدينة , وكانت مقهى المرحوم " كريم كله " محطة توقف الباصات القادمة من إيران والمغادرة لها بعد إنهاء المراسيم , لتناول وجبات الطعام الثلاث وكانت تعتبر أكبر محطة إستراحة على الطريق الدولي الرابط بين البلدين .
وقد كانت الحركة فيها من الكبر بحيث أن ثمة مخبزين في المدينة كانا متفرغين لأنتاج الخبز للمقهى , وقد بلغت الصرفيات في أحد الأيام ما مجموعه أكثر من ألفي رغيف فقط من مخبز المرحوم " حسين الوندي " الكائن في الحي العصري , كنا صغارا ً أيامها و في طور المراهقة و كانت المقهى تستهوينا للتمتع بالنظر إلى الجمال الذي من الله به على النساء الإيرانيات .
الزيارات الرسمية والهدايا الإيرانية: مشاهد من المشكلة التي جرت.
وعندما زار وفد رسمي كبير طهران بدعوة من الشاه و كان ضمنه وزير الدفاع و رئيس أركان الجيش , قدمت قيادة الجيش الإيراني هدية لرئيس أركان الجيش آنذاك " اللواء إبراهيم فيصل الأنصاري " عبارة عن 50 باص مرسيدس من النوع المتوسط و 25 باص كبير سعة 50 راكبا ً من إنتاج المصانع الإيرانية للسيارات لأستعمالها في نقل الضباط والمراتب من بيوتهم إلى المعسكرات .
وعندما مر هذا الموكب عبر المدينة خرجنا جميعا ً لأستقباله ونحن نلوح بأيدينا فرحين , هذه الباصات كان قسم منها لا يزال مستعملا ً في أعوام الثمانينات في معسكر التاجي عندما أستدعيت لأداء خدمة الإحتياط .
وعندما طلب الإيرانيون السماح بمرور قافلة لهم تحمل الصناديق الذهبية الجديدة لضريحي الإمامين " موسى الكاظم ومحمد الجواد " في الكاظمية التي تبرع بها مواطنيهم , مر الموكب أيضا ً ليلا ً من مدينتنا بسلام و هدوء , إلا أن الأخبار وردت في اليوم التالي عن حدوث مشاكل عند مرور الموكب في منطقة الأعظمية وقيام المرافقين للصناديق بترديد شعار " ماكو ولي إلا علي .. نريد قائد جعفري " رغم ذلك الجو المتنامي في الود بين حكومتي البلدين.
تأثير العلاقات العراقية-الإيرانية: مدينة شهربان بين تجارة الحشيش وإدمان الترياق.
هذه الأجواء من العلاقات الجيدة بين البلدين سهلت الأمر الذي ستكون فيه مدينتنا معبرا ً لتجارة الحشيش ومرتعا ً خصبا ً للإدمان عليه بين شبان المدينة وشيبها آنذاك , و الأخطر منها كان مادة الترياق والتي كان الكثير من شيب المدينة مدمنين عليه , وقد أدى ذلك بأحدهم إلى الموت أيامها .
وفي تلك الأجواء أيضا ً كنت أؤدي إمتحانات الدراسة المتوسطة وكان لزاما ً علي الخروج والمذاكرة سيرا ً على الأقدام بمحاذاة الحديقة العامة الكبرى في المدينة والتي لا زالت تحمل التسمية العزيزة عليها " حديقة الزعيم " الممتدة من مدخل المدينة الغربي والتي تنتهي عند المدخل الشرقي لها .
و كانت هذه الحديقة مقسمة إلى أجزاء ينتهي أكبرها عند دائرة البريد الحالية بساحة مستديرة ثم الجزء الثاني المنتهي عند قنطرة " الإنكليز " والذي كان مقسما ً بدوره إلى ثلاثة أقسام , فجأة ومن القسم الثاني منها خرج أحدهم مترنحا ً وهو يعبر سياجها الواطئ نسبيا ً وإذا به يستمر مندفعا ً في الشارع يروم العبور إلى الجهة الثانية لكنه واظب على القيام بنفس حركة عبور السياج , رافعا ً قدمه اليمنى لخطوة ثم يرفع اليسرى بعدها ويتبعه فريق من خمسة أعضاء يؤدون نفس الحركات وهم يعبرون الشارع وكأنها سياجات لا متناهية أمامهم.
حوار مع صديق: اكتشاف عالم الحشيشة وتأثيرها على المجتمع.
الحشيشة 2 فاضل كندوري.
الطريق إلى محطة القطار يخترق سلسلة من البساتين على جانبيه تبدأ من الساحة التي تتفرع منها الطرق إلى محلة " الرمادية " ومركز السوق المنتهي بالساحة التي تقع على طرفها مقهى " رحمن سفر " ومطعم " سراب " والشارع المؤدي إلى الحي العصري والأخير المؤدي إلى المحطة .
في فصل الربيع تزهر أشجار الحمضيات وزهورها تسمى " القداح " الذي يتناثر شذاه الزكي برائحة من أجمل الروائح التي لا تضاهيها حتى العطور الباريسية الرهيبة , وتمتد على جانبي الطريق ساقيتين تتفرعان من نهر الشاخة يستخدم مائهما لري البساتين , في الليل تمتزج رائحة القداح بنسمات عذبة تهب من أطراف الفضاء المفتوح قرب المحطة وتعانق سطح مياه " الشاخة " لتتشبع بالرطوبة وتغلف الأجواء في قلب الشارع بالشاعرية.
الطريق من بعد محطة القطار يفضي إلى قرى " سنسل " و " التايهة " و " حنبس " و " إسيود " و " العالي " لذا فهو نهارا ً يكون مطروقا ً من قبل الذاهبين و القادمين من وإلى تلك القرى بالإضافة إلى المسافرين إلى جلولاء وكفري وكركوك عبر محطة القطار الصاعد من محطة " شرقي بغداد " إلى كركوك .
وفي الليل يصبح ملتقى للعشاق وملاذا للشباب الذين يتناولون الخمرة ويستمعون إلى السيدة أم كلثوم متخذين من حافات السواقي مجالسا ً لهم لأنهم يخجلون من الذهاب إلى نادي الموظفين الكائن في أطراف القضاء حتى لا تنكشف أسرارهم وتتناهى الأخبار إلى ذويهم فيتعرضون لعقوبات قاسية من قبل الآباء والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى الطرد من البيوت.
وصف طريق المحطة وموقع الامام مسافر.
وسط الطريق يوجد تفرع من ناحية اليمين و أنت ذاهب إلى المحطة يخترق البساتين ليصل في نهايته إلى حافة النهر " الشاخة " ويتفرع من هناك إلى فرعين الأيمن يقودك إلى المدينة و الأيسر يقودك إلى مشروع ماء المدينة و محطة الكهرباء الرئيسية القديمة و منها صعودا ً إلى أطراف محطة القطار حيث الطريق إلى القرى التي ذكرناها سابقا ً .
مقابل هذا التفرع تقع بستان بابها مفتوح دائما ً يوجد فيها ضريح بنيت عليه قبة من الطين يسمى محليا ً " الإمام مسافر " و التي تدمج عند اللفظ لتصبح " إمام سافر " و في الروايات أن هذا الضريح يعود للإمام " عبد الله " إبن الإمام " موسى الكاظم " الذي وافته المنية هنا و هو في طريقه إلى مدينة " قم " في إيران لزيارة ضريح قريبه الإمام " موسى الرضا " المدفون هناك بعد وفاته فيها .
الضريح أيضا كان مكشوفا ً بدون قفص و كان بناء القبر من مادة الطين المجفف في الشمس " اللبن " بعد تقطيعه ضمن قوالب مخصصة لهذا الغرض يحتوي كل قالب منها على أربع خانات الواحدة منها تعادل في الحجم طابوقتين أو أكثر , كانت النساء تزور هذا الضريح عصر كل يوم خميس حاملات الشموع و الحناء و بعد أداء مراسم الزيارة و طلب النذور ترمي كل واحدة منهن بقطعة نقود على القبر و من ثم يقفلن عائدات إلى بيوتهن .
العيد في شهربان له طقوس و وقفات تقسم أيامه عليها , كان اليوم الأول صباحا ً يقضى في وقفة الشيخ مختار و اليوم الثاني في وقفة الإمام سافر و الثالث في مرقد المقداد , وقفة اليوم الثاني تأخذ كل مساحة الشارع من محطة القطار و حتى مدخل المدينة و محورها الرئيس هو مرقد الإمام " عبد الله بن الكاظم " حيث تتجمهر القرويات في مجاميع تقضي النهار في صفقات و زغاريد بينما يتراقص الرجال منهم على أنغام الطبل و المزمار مؤدين رقصة " الجوبي " و من اللطائف التي كنا نسمعها منهن و هن يغنين هذه الإهزوجة البسيطة في كلماتها و العميقة في معانيها :
" أبو عكال لا تنقهر ... تره الأفندي كاله " هههههههههههههههههههههههه .
كانت هذه الإهزوجة تستجلب ضحكاتنا المستمرة و نحن مارين من أمامهن بملابسنا الجديدة بمناسبة العيد.
ملاذ شلة الحشيش وسرقة النقود.
كان الضريح من ناحية أخرى ملاذ " شلة الحشيش " حيث يقومون بجمع المبالغ التي وضعتها النساء مساء كل يوم و يذهبون بها لشراء ما يضمن لهم الإنتعاش , و كان مستمرين على هذا المنوال كل يوم و نهاية كل أسبوع . إلى أن جاء اليوم الذي كان المرحوم " سعيد ليلان " أثناء عمله مع المرحوم " عباس أوح " في مطعمه الشهير بالكبة اللذيذة , قد تعرض لمشكلة عائلية وسأل الله حلا ً لها ناذرا ً لوجهه أن تخلص منها فإنه سيقوم على خدمة الضريح مساء كل يوم .
في كل مساء بعد أن يغلق المطعم أبوابه كان " سعيد " يمتطي دراجته الهوائية و يقصد الضريح , مبتدأ بكنس الأرضية الترابية و قبة القبر و من ثم جلب الماء بالجردل من الساقية التي تخترق البستان ليرش الأرضية الترابية , و يأخذ له نصف ساعة أو أكثر في قراءة القرآن وبقبل مغيب الشمس كان يؤدي مراسم الزيارة من دوران حول القبر مقرونا ً بالدعاء و قراءة الآيات القصار من القرآن .
و بعمله هذا فوت على " الشلة " مسألة سلب النقود من فوق القبر و التي أعتادوا عليها لشراء عدتهم من الحشيش , الأمر الذي أستوجب عقد إجتماعات كثيرة بينهم للتداول في أمره و بحث الكيفية التي سيصلون فيها إلى النقود , لأن موضوعة الذهاب ليلا ً لجمعها كانت خارجة عن التصور بسبب ما زرعه الأهالي في أذهانهم و أذهاننا جميعا ً من أمور خارجة عن المنطق لكنها كانت سائدة في تلك الأيام , من قبيل رؤية الشيخ مختار مساء كل يوم و هو يذهب إلى الشاخة ليتوضأ لإستعدادا ً للصلاة , أو خروج الموتى من قبورهم التي تحيط بالأضرحة من كل جانب , و عن مشاهدات كثيرة للجان و الأرواح الشريرة .
في أحد تلك الإجتماعات تصدى " فاضل كندوري " للموضوع عارضا ً بأنه سيجعل مسألة ذهاب " سعيد " لخدمة الضريح في خبر كان طالبا ً أن لا يسأله أحد عن كيف و متى ؟
ظل " فاضل " يراقب " سعيد " أياما ً معدودة ليتمكن من ضبط موعد المغادرة من المطعم نحو الضريح بشكل تقريبي حتى توصل إلى موعد معين , و ذات يوم ما أن أبتدأ " سعيد بتجميع الكراسي تمهيدا ً لإدخالها المطعم إيذانا ً بإنتهاء يوم العمل حتى إختفى " فاضل " من موضع المراقبة , دقائق و أمتطى " سعيد " دراجته الهوائية متوجها ً نحو الضريح .
ما أن وصل هناك حتى أبتدأ بمهامه اليومية من كنس و رش و صولا ً لأداء مراسم الزيارة , لكن " فاضل " الي كان قد سبقه إلى هناك , كان قد تجرد من كامل ملابسه و دخل غرفة الضريح و أختبأ خلف القبر من الجهة المقابلة للباب و التي كان فيها شباك صغير ينفذ منه نور الشمس إلى داخل الغرفة .
ما أن دخل " سعيد " الغرفة مبتدأ ً لفته حول القبر حتى كان " فاضل قد لف هو أيضا ً ليكون على الجانب المقابل له دون أن يراه " سعيد الذي كان قد أصبح في المكان الذي كان " فاضل " مختبأ فيه وأصبح فاضل في لفته عند الباب و ما أن أسترسل سعيد في مناجاة الإمام و الدعاء حتى برز له " فاضل " واقفا ً و أشعة الشمس تسقط على جسده الأسمر و قامته القصيرة و هو يقول :
- تتدلل كل اللي أتريده أيصير
سقط " سعيد " مغشيا عليه لملم " فاضل " الدراهم و ركض خارجا ً ليرتدي ملابسه في الباحة الأمامية للضريح و يخرج من بين الأشجار دراجة هوائية كان قد أستخدمها ليصل إلى المرقد قبل " سعيد " و يقفل عائدا ً إلى المدينة ليلتقي بالشلة .
صحا " سعيد " من إغمائته وهو يرتجف ذهب إلى الساقية ليغرف الماء ويرميه على وجهه وهو لا زال في عز الصدمة لا يريد أن يصدق ما جرى , ولكنه في قرارة نفسه لا يريد أن يكذب عينيه .
" فاضل " مخاطبا ً الشلة :
- سوف لن ترون " سعيد " ذاهبا ً لأداء مهامه اليومية هناك بعد اليوم . و لا أريد أحد منكم أن يسألني كيف و لكني أضمن لكم الدراهم التي نجلب بها الحشيش .
" سعيد " موضحا ً لمن يسأله عن سبب إنقطاعه عن الزيارة :
- قابل أنا جايز من روحي ... بابه دا أدعي من الله بجاه الإمام و إذا القبر ينشق و يخرج منه الإمام بشحمه و لحمه و يقول لي :
كل ما تريده سيصبح حقيقة . بعد ما أوصل هناك لو ما أدري شيصير .
رحم الله أبناء مدينتي الأحياء منهم و المتوفين .
يتبع
<><>
الحشيشة – 3 محمد زاولي.
حدثتكم سابقا ً عن دار جدي التي كانت ملكا ً مشاعا ً وقسمت قسمة رضائية بين الورثة والتي ذهبت بعد سلسلة من عمليات البيع و الشراء للحصص لتؤول ملكيتها بموقعها الركن الإستراتيجي إلى المرحوم " عزيز جمعه الجبوري " الذي هدمها و حولها إلى قيصرية ... في القطعة التي قام عليها بيتنا أستأذن المرحوم المقتول غيلة " حميد عباس الرجب المهداوي " أبي و بقية الورثة لفتح دكان من أحدى الغرف الكبيرة المطلة بشباكها على الشارع العام.
وافق أبي وعماتي الإثنتين لكنهم طلبوا منه إستحصال موافقة أقاربهما في بغداد ( خالتهم و خالهم كبير العائلة ) الذين يشاركانهما وبقية الورثة في كل الحصص بحكم كونهما الوحيدين من أولاد جدنا " محمد أمين أفندي الملا عبد " الباقيين على قيد الحياة .
عاد المرحوم " حميد المهداوي " من بغداد حاملا ً معه الموافقة الشفهية على إفتتاح الدكان , و قد كان له إحترام و تقدير من كل عوائلنا بحكم زواجه من إبنة خالة أبي و إبنة أخت المرحومين في بغداد , و تمت المباشرة بإعداد الغرفة الكبيرة لتكون دكان يفتح أبوابه على الشارع الرئيسي , و كان المرحوم " حميد المهداوي " ينوي إستخدامها لبيع المرطبات المثلجة " الموطا " و أستجلب معه من بغداد مجمدة خاصة لهذا الغرض ذات ثمانية أبواب فوقية كان يستوردها أصحاب شركة " ف . أ . كتانة " وهي إيطالية الصنع .
تم إستقطاع جزء من مساحة الغرفة ليكون محلا ً لصناعة المرطبات المثلجة " الدوندرمة " و الجزء الباقي المحصور بين المجمدة الموضوعة عند مدخل المحل وضعت فيه قنفتان " كرويتتان " وبعض الكراسي و الطبلات لجلوس الزبائن .
تم الإتفاق مع الأخ " محمد الزاولي " شقيق الأخ " شوكت " مصلح الدراجات الهوائية ليكون هو الشيف لصناعة الدوندرمة على أن أساعده أنا في الإنتاج ثم نتناوب على عملية البيع , كنا نأتي صباحا ً مبكرين و نذهب إلى معمل ثلج " سلامة " في القرية المسماة بأسمه لجلب الثلج , وكان هناك أتفاق بين العم " حميد المهداوي " وبين عدد من مربي الجاموس في المدينة على تزويدنا بالحليب الطازج كل يوم . أما بقية المواد المعطرة و المثخنة كالـ " ثعلبية / الفانيلا / المعطرات " فكان يتم شرائها من بغداد و البسكت المخروطي كنا نتزود به من معمل في بعقوبة كان موقعه سابقا ً مقابل مبنى المحافظة الحالي وسط المدينة .
ولا بد من توضيح الصورة لكيفية عمل الدوندرمة بطريقة " الدك " , فقد كانت الأدوات المستعملة كالآتي :
- 1- برميل خشبي كبير أسطواني الشكل منتفخ من الوسط مفتوح من الأعلى , من النوع المستخدم لإستيراد مخلل المانجو ( العمبة ) من الهند ويكون محزما بثلاثة أحزمة من قيد حديدي .
- 2- إناء كبير من النحاس يسمى " الصفرية " يشبه قدور تسخين الماء في حمامات بيتونا الشرقية القديمة ولكنه بلا أنبوب لتفريغ المياه , ويكون عرضه أقل من عرض البرميل بـ 20 سم على الأقل حتى يملأ الفراغ ما بينهما بمادة الثلج الذي يرش فوقه الملح من النوع غير المطحون .
- 3- أناء من النحاس على شكل نصف كرة بيديتين من الجوانب يستخدم لتسخين الحليب لدرجة الغليان لغرض قتل ما قد يكون علق فيه من الجراثيم .
- 4- أداة تسخين نفطية " بريمز " مصنعة محليا ً برقبة طويلة و فوهة كبيرة وليست كالمستوردة الصفراء التي كانت تستخدم يومذاك في البيوت لأغراض الطبخ يوم لم يكن هناك معرفة بعد بإستخدام غاز الطبخ .
- 5- مغرفة نحاسية بذراع طويل تستخدم لرش الحليب على جوانب الصفرية .
- 6- قضيب نحاسي ينتهي من أحد جانبيه بطبقة رقيقة من النحاس يسمى " المس " , سنأتي على ذكر دوره في العملية .
- 7- ذراع خشبي طويل نسبيا ينتهي في أحد جانبيه بكرة من الخشب يسمى " الطخماخ " مشابه لذلك المستعمل في طبخ " الهريسة "
أما طريقة العمل التي يتبعها الأخ " محمد " فكانت بتقسيم الحليب إلى وجبات تسخن كل منها على حدة و بمعدل 12 – 14 وجبة تتكون كل منها من جردلين " سطلين " حليب , كان للون الأبيض حصة الأسد فيها إذ غالبا ً ما يكون وجبتين أو أكثر , و طريقة تحضيره أسهل من الباقيات , إذ تتم إضافة الثعلبية والفانيلا أثناء عملية التحريك على النار ثم تضاف له المكسرات " اللوز و الجوز المقطعين " أثناء التبريد و قبل وضعه في الصفرية التي تكون جاهزة لبدء العمل .
نسيت أن أخبركم أن هناك سلسلتين حديديتين تثبت أحدى نهايتيها بالجدار الخشبي للبرميل والثانية تنتهي بخطاف يثبت على الصفرية النحاسية للتحكم في حركتها أثناء العمل , تبتدأ العملية بتحريك الصفرية ذات اليمين وذات الشمال وما أن يبدأ الحليب بالإنتقال إلى حالة شبه الإنجماد يبدأ برش الحليب على جوانب الصفرية حتى يتماسك أكثر وعندها تبدأ عملية حكه من الجوانب ليستقر في قعرها.
وقد تأخذ العملية قرابة نصف ساعة من الوقت حتى يتجمد الحليب نهائيا ً ويتجمع في القعر لتبدأ عملية الدق بتلك العتلة الخشبية حتى يتمازج ويتماسك الإنتاج للحد الذي يصعب قطعه و يصبح شيئا ً ذا شكل و نكهة تغري الناظر , ثم يستخرج من الصفرية ليوضع في المجمدة في آنية خاصة هي عبارة عن صفائح السمن النباتي الفارغة من فئة 16 كغم . ويكون معدل إنتاج الوجبة ساعة كاملة تقريبا ً و كنا نتناوب على العملية فتارة يكون التجميد علي و الدق على الأخ " محمد " وتارة أخرى بالعكس .
وبعدها تبدأ عملية الألوان , وأولها وجبة طعم الكاكاو باللون القهوائي , وهناك الأصفر بطعم الموز , الأحمر بطعم الرمان , الوردي بطعم الستروبري , ..... , إلخ و عندما تنتهي الوجبة تكون قوانا قد خارت من كثرة الدق , و العم " حميد " جالس في المحل يتذوق كل وجبة نصنعها بروحه المرحة :
- تعال ولك " محمد " ناوش عمك فد " زهمول " خلي يبرد قلبه أشوي .
و الـ " زهمول " حسب تعبيره كان كرة أو كرتين من الدوندرمة يلوكهما في فمه و كلمات الثناء و الإعجاب بالجودة لا تنقطع من فمه .
مضت الأيام و نحن مستمرون بالعمل على وتيرة واحدة من الصباح و حتى آخر الليل و كان الإقبال على المحل كبيرا ً لعدم وجود منافس في المدينة يعمل على إنتاجها بهذه الطريقة و يوم لم تكن مكائن تصنيع " السوفت كريم " قد عرفت في العراق ككل و لم تكن هناك معامل لأنتاج " اللكي ستك " و هو " الموطا أم العودة " كما أصطلح على تسميتها محليا ً .
ذات يوم صيفي قائظ , وكان الصيف في بدايته , إقترح علي " محمد " إقتراحا ً لاقى من القبول الفوري إذ قال :
- إسمع , لماذا لا نقوم بالإنتاج ليلا ً , حيث الجو يعتدل ولاحرارة تضاف على حرارة " البريمز " الكافرة عند تسخين الحليب , خصوصا إنك سوف لن تلاقي عناء في العودة للبيت لأن المحل خارج من بيتكم .
- طبعا ً أن ذلك سيكون أفضل .
- جيد , ستكون الخطة كالآتي : نذهب أولا ً إلى السينما , نعود بعد نهاية الفيلم " غالبا ً ما كان العرض ينتهي في الثامنة و النصف " ونذهب إلى معمل ثلج " بيت سلامة " لجلب الثلج و نبدأ بالعمل .
- طيب و العم حميد ماذا نقول له ؟
كانت بالنسبة لي فكرة جيدة تنهي آلام الدق رغم أنني كنت في مرحلة الشباب و لكن العملية منهكة للعضلات , نصف ساعة تقريبا من رفع هذه الكتلة الخشبية و دقها على المزيج في قعر الصفرية حتى يتماسك , سأخلص منها مقابل راحتي و أنا أعد المزيج فقط , و أقتنع العم " حميد " بالفكرة و مضينا هكذا كل يوم , نصنع الإنتاج في الليل و نتفرغ للبيع في النهار .
لكن ما لاحظته بمرور الأيام أن " محمدا ً " كلما يناديني لإستلام وجبة جاهزة , كان يدخن لفافة تبغ يتخرج منها رائحة كريهة تملأ الجو في خلفية الدكان , ولكون العم " حميد " كان مدمنا على تناول الكحول و كونه جالسا ً في بوابة المحل لم أكن أعتقد بأنه كان يلاحظ أم يشم تلك الرائحة . و أبتدأت الاحظ مع مرور الوقت و الأيام سرعة غير طبيعية و إختصار في وقت إنجاز الوجبة , و كذلك ظهور نوع من الإحمرار في بياض عينيه و هالات زرقاء في محيط الجفنين , لكني لم أفهم سببا ً لذلك سوى التعب .
وفي مرة من المرات التي طلب مني أن أصحبه إلى بعقوبة لجلب البسكت المخروطي من ذلك المعمل , معللا ً ذلك بالقول بأنه في حالة إنشغاله هو عن الذهاب لأي سبب كان فإنه علي أن أذهب أنا لجلب البسكت , ركبنا باص الخشب العائد للحاج " شاكر شهيد " وهو يتهادى بين جانبي الطريق مرورا ً بتقاطع أبي صيدا – الوجيهية القديم و بين بساتين النخيل على جانبيه وصولا ً إلى بعقوبة .
دخلنا المعمل و محل البيع الواقع في واجهته , أستقبلنا شاب لطيف إستقبالا ً محفوف بالترحاب البالغ مقدما ً سيكارة لـ " محمد " الذي أشعلها وأخذ ينفث دخانها في سماء معرض البيع وإذا بي أتحسس فيها نفس تلك الرائحة التي تنبعث من صالة الإنتاج في المحل عندما يناديني لنقل الإنتاج إلى المجمدة , لم أسأله عن نوع السكاير التي يدخنها و التي تصاحبها هذه الرائحة المتميزة عن نوع السكاير التي يدخنها أبي والعم " حميد المهداوي " والتي لم تأتي منها سوى رائحة التبغ المغرية بالنسبة لي والتي سأعتادها مستقبلا ً بحكم ميلي إلى التدخين .
وما أن أستلمنا طلبيتنا و وضعناها عند بوابة المعمل بإنتظار وصول باص الحاج " شاكر " الذي أتفقنا معه على أن يوافينا هناك و يحجز لنا الخانة الخلفية في الباص لنا و لكارتونات البسكت الخاصة بنا , وما أن ظهر الباص في نهاية الطريق حتى أستدرك " محمد " قائلا ً :
- لقد نسيت شخاطتي عند الولد , سأجلبها قبل أن يصل الباص .
دلف إلى المعرض و خرج بعد قليل حاملا ً الشخاطة في يده ليريني أياها وهو يدخن سيكارة أخرى منحه أياها ذلك الشاب اللطيف في معرض مبيعات معمل البسكويت , وكانت رائحتها نفس الرائحة التي شممتها قبل قليل من الوقت .
حملنا كارتونات البسكت في السيارة التي أخذت تتهادى في طريق العودة بفضل سياقة الحاج " شاكر " المتروية وعند وصولنا إلى تقاطع السكة الحديد مع الشارع قبل مفرق " أبي صيدا – الوجيهية " كانت هناك مطبات في الشارع سببت إرتجاجا ً خفيفا ً للباص لكني لم ألحظ إلا و " محمد " يضع يديه على ساقي الأثنين وهو يقول :
ساعتها فقط عرفت سر الرائحة الكريهة وسر السكائر التي يدخنها " محمد " عندما سقطت من يده الشخاطة وأنفتحت وتبعثرت منها كرات صغيرة بنية اللون إحداها بحجم خروج الأغنام الجافة , وعرفت من أين يأتي بها " محمد " و كيف تحيله إلى إنسان بقوة 4 حصان لينجز كل تلك الأعمال ليلا ً لوحده .
الحشيشة 4 هاشم قوان.
عندما باشر المرحوم " يحيى حسين الشكر – أبو خالد " بهدم المبنى العائد له و الكائن بين بيت المرحوم " علوان منصور " وبيت قديم عائد لعائلة يهودية و في الواقع لا أتذكر من أشتراه على الجانب الآخر من الشاخة و كلف عمي المرحوم " هادي البناء – والد عدنان " بأعمال إعادة البناء لتكون مقهى تربطها بالشارع العام قنطرة كونكريتية عريضة " تقريبا كانت بعرض 4 م " أستخدمت فيما بعد لوضع " كرويتات " للزبائن ليتنعموا بالنسيم البارد الهاب من النهر ليلا ً عندما أستكمل البناء و تم الإفتتاح .
على الجانب الأيمن و أنت داخل إلى المقهى عبر القنطرة كان هناك قوس من البناء يشمل علوة الحاج " أميرة " لبيع وشراء الحبوب وسكلة " عيسى بساطي " لبيع أخشاب الحور و حصران القصب " البارية " و مواد البناء من جص و ما شاكل , وبين هذا القوس و رصيف الشارع كان هناك فضاء واسع يستعمل ليلا ً بعد أن يغلقا محليهما لوضع " الكرويتات " و الطاولات للزبائن المستغرقين في سماع السيدة " أم كلثوم " و المنشغلين بلعب " الدومينو " و " الطاولي " و " الورق " .
كنا نمضي أول الليل في بعض الأيام هناك لكون المقهى مقابلة لبيوتنا , و لا نطيل في تواجدنا لأننا صباحا ً يفترض أن نكون جاهزين للذهاب إلى المدرسة , و كنا على أيامها في المرحلة الأولى للدراسة المتوسطة , أي في عز أيام المراهقة , وذات يوم في الصباح فوجئنا بأحد الكرويتات الموضوعة على القنطرة مكسورة من منتصفها و عند سؤال العم " أبو خالد " عن سبب كسرها أجابنا ضاحكا ً :
- البارحة ليلا ً فاتكم الفلم .. كان " عبيدة القصاب " يجلس على جهة اليمين منها و هو يطلب الشاي و الأركيلة , قليلا ً و جاء " رفو – ابو ماجد " وبعد إلقاء التحية .. جلس على جهتها اليسار و طلب شايا ً و أركيلة , و بينما هما ينتظران أبتدأ بينهما المزاح , و ما كنا نسمع سوى أصوات فرقعة و ضحكات تتعالى من جهتهما و إن هي إلا لحظات حتى سمعنا فرقعة ً قوية و صوت إرتطام الخشب بالأرض و هما يجلسان على مؤخرتيهما على الأرض و ضحكاتهما كادت تصل إلى أطراف المحلات القريبة .
مضت الأيام و صار الإقبال على المقهى شديدا ً وشهدت تطورا ً ملحوظا ً في نوع الخدمات الليلية المقدمة للزبائن , إذ أتفق المرحوم " هاشم قوان " مع العم " يحيى حسين الشكر " على أن يفتتح مطعما ً ليليا ً لتقديم المشويات بأنواعها , يبدأ العمل فيه مع بداية الغروب و حتى إنتصاف الليل و يكون على شكل مطعم متحرك أي أن معداته ترفع بعد الفراغ من وجبة العمل لتوضع على أطراف القوس المذكور سابقا ً .
بمرور الوقت إزدهرت أعمال المرحوم " هاشم قوان " الأمر الذي دفعه لتشغيل عمال معه , أحدهم يلبي الطلبات و الآخر يقدم الماء و المشروبات الغازية , وبحكم كون المرحوم " هاشم " صاحب شخصية مرحة و صاحب نكتة و لطائف , فقد كان لقفشاته مع الزبائن عامل ذا تأثير قوي في إزدهار أعماله , إلا أن أحد المواقف المثيرة التي علقت في ذاكرتي و التي أجترحها ذات ليلة , كان أحد العمال قرويا ً و قد أحب أن يتذاكى و يستعرض مهارته المكتسبة في تلبية الطلبات أمام رب عمله فصاح قائلا ً :
- عندك 3 نفرات كباب 2 تكه و واحد معلاك و طماطه شوي أستادي .
لم تسمع في جوابه من قبل المرحوم " هاشم " سوى صفعة على خد العامل و هو يؤنبه :
- لك لا تكول أستادي .. اليسمعك شيكول .. إذا استادك " ....... " من هاي الدولكه , لعد أنته شلونك إذا آني أستادك .
أنهمرت الدموع من عيني العامل الذي أستغرب هذه الحركة و هذه الكلمات التي أثارت عاصفة من ضحكات الزبائن في المقهى .
وفي تلك الأيام كان أحد الجنود في معسكر المنصورية قد أودع السجن العسكري بسبب من غياباته المتكررة كعقوبة له و لمدة شهر , و من المعلوم إن الموقف المسائي للمعسكر يتضمن زيارة ضابط الخفر للسجن و إجراء التعداد على المسجونين لإثبات تمام العدد في الموقف المرسل من سرية التدريب الأساسي إلى آمرية المعسكر .
في تلك الليلة كان ضابط الخفر من ذوي الإطلاع الواسع على حقيقة الأمور التي تدور في البلد و عند دخوله إلى مبنى السجن إلتقفت حاسة الشم لديه رائحة غريبة في السجن هي أشبه بتلك الرائحة التي كنت أشمها عند دخولي على المرحوم " محمد زاولي " في غرفة الإنتاج في محل بيع الآيس كريم الذي تحدثت عنه سابقا ً .
طلب من آمر حرس السجن إخراج السجناء جميعا ً من المحجر و دخل كل غرفه بحثا ً عن أي أوساخ أو ما شابه تعطي نفس الرائحة ليقطع شكه باليقين , وجدها جميعا ً نظيفة و لا توجد آثار لأي أوساخ أو نفايات , طلب من آمر الحرس تقديم الموجود وفق السياقات العسكرية المتبعة و هي تنظيم السجناء في صفوف ثلاثية و إعطائهم الإيعازات لترك مسافات بين الصفوف يمرق من خلالها ضابط الخفر ليفتش الجنود السجناء و هذه الإيعازات لمن لا يعرفها كانت تتم وفق الآتي :
و هنا يمرق الضابط بين الصفوف و عند إنتهائه من التفتيش " نظافة الملابس / الأظافر أحيانا ً / قصة شعر الرأس / حلاقة الوجه " .
أثناء حديثه مع أحدهم و سؤاله له عن حلاقة لحيته , إكتشف أن نفس تلك الرائحة تنبعث من فم الجندي , أغفله و مضى و بعد إنتهاء المراسم طلب من آمر حرس السجن صرف السجناء جميعا ً بإستثناء صاحب الرائحة الذي أمره بجلبه إلى غرفة آمر الحرس .
لحشيشة - 5 هاشم قوان – 2.
صبيحة اليوم التالي و بعد إنتهاء مراسيم تقديم الموجود في ساحة العرضات , أمر الضابط الخفر لمساء البارحة عريف حسن بإحضار " ق " إلى غرفته , جاء عريف حسن به و بعد أداء التحية أمر الضابط الذي كان بمعيته ضابط إستخبارات الآمرية العريف حسن بالإنصراف متوجها ً بكلامه بعدها إلى " ق " :
- شوف إبني , نجيبها من الأخير , تعرف الأخ الجالس هنا يمي لو ما تعرفه ؟
- البارحة بالتفتيش المسائي على السجن , أشتميت رائحة مو زينة بالغرف , و وره التعداد أكتشفت الجندي صاحب الرائحة , و بعد التحقيق معاه أعطانا أسمك على أساس أنت تجيبله الحشيش من شهربان .
- سيصحبك إلى الداخل إثنان من الشرطة و لاتحاول أية محاولة للفرار لأن الأمر يتضمن إطلاق النار في تلك الحالة .
- و علام هذا الأمر , دقائق فقط .
مضت الدقائق ثقيلة نوعا ً ما حتى خرج صحبة الشرطيين و هو متغير الهندام بطقم ملابس اسود اضفى على هيئته وقاراً متزايدا ً بالإضافة لتلك الخطوط البيضاء من الشعر , تحرك الموكب و عشرة دقائق أخرى كان الموكب يدخل المديرية , أصطحبه مدير الشرطة إلى مكتبه حيث كان يجلس هناك محققين يرتديان الملابس المدنية .
أبتدأ مدير الشرطة الحديث قائلا ً :
- إسمع يا سيد ....... الكرخي , بدون أدنى محاولة للف و الدوران , أنت متهم بالمتاجرة بالمخدرات و خصوصا ً الحشيشة , و هناك لدينا إعترافات موثقة عليك من أناس كانوا يعتبرون ضمن منافذ التوزيع الخاصة بك .
- ما هذا الكلام الذي اسمعه , انا شخص محترم في المدينة , و إبني أنت تعرفه و تعرف إنجازاته , وكيف سولت لكم أنفسكم أن تشكو بي بمثل هذه الطريقة السمجة و تقلقوا راحة العائلة في الصباح الباكر بناء على إتهامات كاذبة و باطلة .
- ألم أقل لك بلا لف و دوران , نحن نعرف سيرتك في المدينة , أي نعم هناك الكثير ممن يحترموك في المدينة لأنك نجحت في تضليلهم لدرجة أنهم لا يعرفون شيئا ً عن أنشطتك هذه . تكلم بصراحة لتنجو من الحكم المشدد و الذي لا بد أنه تناهى لمسامعك فقد صار الإعدام بدل المؤبد , وهذان السيدان سيأخذان بالإعتبار مدى تعاونك معنا ليضعاه في محضر التحقيق .
الحشيشة – 6 خالد صيني.
في مضيف شرطة المحافظة كان السيد " ........... الكرخي " قد حل نزيلا ً محترما ً , لم يقبل مدير الشرطة أن تستعمل معه أية وسيلة من وسائل التحقيق المعتادة لدى الشرطة , بل ترك الموضوع للعامل النفسي الذي سينعكس من جراء المعاملة الجيدة لفك عقدة لسانه , و جعله يدلي بما في خاطره من تلقاء تفسه .
لقد أفلح هذا الإسلوب المقترن بالقليل من الترهيب المستخدم ساعة القبض و ساعة إدخاله المضيف , إذ قال له المدير إن الأمر متروك لك أيها المحترم في السكوت أو الإدلاء بالمعلومات و لكن عليك أن تعرف أن العقوبة قد تغيرت من السجن إلى الإعدام للمتاجرة بمرسوم جمهوري لتعديل قانون العقوبات النافذ .
عندما أدلى النزيل المحترم بمعلوماته حول المصدر والذي أثار الإستغراب بحكم أن كل المؤشرات و الدلائل المتوفرة كإستنتاجات لدى مديرية الشرطة و كل الأجهزة التنفيذية على مستوى المحافظة كانت تتجه إلى الشرق حيث الأقضية المحاذية لحدود البلاد , بحكم كون إيران كانت موطنا لزراعتها , ظلت الدهشة عاقدة ً للألسنة عندما عرف أن المصدر هو بغداد , و بالذات محلة الفضل الشعبية و أعطى السيد " ....... الكرخي " أسم المصدر " خالد صيني " .
كان " خالد صيني " رجلا ً اسمر البشرة قصير القامة يسكن في محلة " القراغول " التابعة لمحلة الفضل الرئيسية و من هناك كان يدير نشاطاته في الشراء و البيع عبر شبكة من الموزعين في بغداد ذاتها , و آخرين للمحافظات البعيدة عن بغداد , أما المحافظات القريبة منها فقد كان هو من يتولى مهمة التعامل مع مركز التوزيع الرئيس فيها , لذا فإن علاقة السيد " .... الكرخي " مباشرة ً به .
نظمت محاضر التحقيق مع " هاشم قوان " و " ....... الكرخي " في معاملة واحدة إضافة لإعترافات الجندي " ق " من معسكر المنصورية و أرسلت إلى مديرية الأمن العامة في بغداد , التي وزعت نسخا ً منها إلى باقي الأجهزة الأمنية " مديرية الإستخبارات العسكرية – جهاز حنين الصدامي ( نواة جهاز المخابرات لاحقا ً ) – ديوان رئاسة الجمهورية " وصدرت الأوامر من رئيس الجمهورية آنذاك " أحمد حسن البكر " بإلقاء القبض على " خالد صيني " و في حالة إبدائه المقاومة يقتل فورا ً دون محاكمة .
لا أحد يعلم كيف تسربت المعلومات و الأخبار إلى " خالد " في معقله , إذ عندما توجهت القوات المشتركة لتطويق المحلة و محاولة إلقاء القبض عليه , كان هو في نفس الوقت حاملا ً لشوال فيه حوالي أكثر من أربعة كيلوغرامات من الحشيش متنقلا ً فوق أسطح البيوت المتلاصقة في محاولة ٍ للهرب من نطاق الحصار , و كان يروم التخلص منها بإلقائها في مياه نهر دجلة حسب إعترافاته لاحقا ً .
رغم كونه مسلحا ً يومها إلا أنه لم يبدي أية مقاومة لمحاولة القبض عليه , سرعان ما أنتقلت القوات بالصيد الثمين و حمولته إلى مقر الإستخبارات العسكرية القريب من المحلة و الكائن يومها في نفس بناية مقر وزارة الدفاع في الباب المعظم , صمد " خالد " أياما ً عدة أمام طرق و وسائل التعذيب السائدة يومذاك لإنتزاع الإعترافات لكنه إنهار أمام وسيلة دنيئة كانت تستعملها تلك الأجهزة آنذاك , و هي الكهرباء على المناطق الحساسة في الجسم و من ثم طلب الجلوس على زجاجة مشروبات غازية مكسورة الرأس .
كان غالبا ً ما يفقد الوعي أثناء حفلات التعذيب , لتتم إفاقته ثانية , و هو في سريرته كان قد عاهد نفسه على عدم الكلام , لأنه عرف بالتغييرات التي تمت على قانون العقوبات النافذ و التي تضمنت عقوبة الإعدام للمتاجرة بأي صنف من أصناف المخدرات و من ضمنها الحشيشة .
لكن ضغط تلك الوسائل و إستمراريتها ليلا ً و نهارا ً أديا في النهاية به إلى الإنهيار ليدلي بإعترافات كاملة عن مصادر تجهيزه بها على الرغم من معرفته بالخطورة على مستقبل و حياة تلك المصادر كونها من العسكريين .
أعطى " خالد " أسماء أربعة ضباط عاملين ضمن القوة البحرية العراقية كانوا هم من يجلبونها من إيران عن طريق مراكب الصيد الإيرانية أثناء قيامهم بواجبات الدورية و التفتيش ليلا ً , في سنوات لم تكن هناك فيها بعد وسائل مراقبة متطورة حتى تتمكن من إكتشاف مثل هذه العمليات التي كانت تتخذ من ظلام الليل الدامس ستارا ً لها .
إحيل الجميع إلى المحكمة التي أصدرت حكمها بعد عدة جلسات بالإعدام شنقا ً حتى الموت على " خالد " و على العسكريين بالإعدام رميا ً بالرصاص , لتطوى بذلك صفحة سوداء من تاريخ المخدرات في العراق مع بداية العام 1971 و الذي تم فيه تنفيذ الأحكام بحقهم . و من اللطائف .. أن " خالد " طلب من رئيس المحكمة بعد النطق بالحكم حق الكلام فرق الحاكم لحاله و قال :
- لك ذلك , و لكن مالذي تريد قوله وقد أفهم الحكم علنا و أنت أومأت برأسك بتقبله .
- ليس الكثير , هي جملة و جملتين أرغب فيهما بسب أحمد حسن البكر و قيادة حزب البعث .
ما أن أكمل جملته , حتى أبتدأ بأنواع من الشتم و السباب الذي لم تسمعهما إذن من قبل بحق من أشار إليهم .