الحشيشة 2 فاضل كندوري.
الطريق إلى محطة القطار يخترق سلسلة من البساتين على جانبيه تبدأ من الساحة التي تتفرع منها الطرق إلى محلة " الرمادية " ومركز السوق المنتهي بالساحة التي تقع على طرفها مقهى " رحمن سفر " ومطعم " سراب " والشارع المؤدي إلى الحي العصري والأخير المؤدي إلى المحطة .
في فصل الربيع تزهر أشجار الحمضيات وزهورها تسمى " القداح " الذي يتناثر شذاه الزكي برائحة من أجمل الروائح التي لا تضاهيها حتى العطور الباريسية الرهيبة , وتمتد على جانبي الطريق ساقيتين تتفرعان من نهر الشاخة يستخدم مائهما لري البساتين , في الليل تمتزج رائحة القداح بنسمات عذبة تهب من أطراف الفضاء المفتوح قرب المحطة وتعانق سطح مياه " الشاخة " لتتشبع بالرطوبة وتغلف الأجواء في قلب الشارع بالشاعرية.
الطريق من بعد محطة القطار يفضي إلى قرى " سنسل " و " التايهة " و " حنبس " و " إسيود " و " العالي " لذا فهو نهارا ً يكون مطروقا ً من قبل الذاهبين و القادمين من وإلى تلك القرى بالإضافة إلى المسافرين إلى جلولاء وكفري وكركوك عبر محطة القطار الصاعد من محطة " شرقي بغداد " إلى كركوك .
وفي الليل يصبح ملتقى للعشاق وملاذا للشباب الذين يتناولون الخمرة ويستمعون إلى السيدة أم كلثوم متخذين من حافات السواقي مجالسا ً لهم لأنهم يخجلون من الذهاب إلى نادي الموظفين الكائن في أطراف القضاء حتى لا تنكشف أسرارهم وتتناهى الأخبار إلى ذويهم فيتعرضون لعقوبات قاسية من قبل الآباء والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى الطرد من البيوت.
وصف طريق المحطة وموقع الامام مسافر.
وسط الطريق يوجد تفرع من ناحية اليمين و أنت ذاهب إلى المحطة يخترق البساتين ليصل في نهايته إلى حافة النهر " الشاخة " ويتفرع من هناك إلى فرعين الأيمن يقودك إلى المدينة و الأيسر يقودك إلى مشروع ماء المدينة و محطة الكهرباء الرئيسية القديمة و منها صعودا ً إلى أطراف محطة القطار حيث الطريق إلى القرى التي ذكرناها سابقا ً .
مقابل هذا التفرع تقع بستان بابها مفتوح دائما ً يوجد فيها ضريح بنيت عليه قبة من الطين يسمى محليا ً " الإمام مسافر " و التي تدمج عند اللفظ لتصبح " إمام سافر " و في الروايات أن هذا الضريح يعود للإمام " عبد الله " إبن الإمام " موسى الكاظم " الذي وافته المنية هنا و هو في طريقه إلى مدينة " قم " في إيران لزيارة ضريح قريبه الإمام " موسى الرضا " المدفون هناك بعد وفاته فيها .
الضريح أيضا كان مكشوفا ً بدون قفص و كان بناء القبر من مادة الطين المجفف في الشمس " اللبن " بعد تقطيعه ضمن قوالب مخصصة لهذا الغرض يحتوي كل قالب منها على أربع خانات الواحدة منها تعادل في الحجم طابوقتين أو أكثر , كانت النساء تزور هذا الضريح عصر كل يوم خميس حاملات الشموع و الحناء و بعد أداء مراسم الزيارة و طلب النذور ترمي كل واحدة منهن بقطعة نقود على القبر و من ثم يقفلن عائدات إلى بيوتهن .
العيد في شهربان له طقوس و وقفات تقسم أيامه عليها , كان اليوم الأول صباحا ً يقضى في وقفة الشيخ مختار و اليوم الثاني في وقفة الإمام سافر و الثالث في مرقد المقداد , وقفة اليوم الثاني تأخذ كل مساحة الشارع من محطة القطار و حتى مدخل المدينة و محورها الرئيس هو مرقد الإمام " عبد الله بن الكاظم " حيث تتجمهر القرويات في مجاميع تقضي النهار في صفقات و زغاريد بينما يتراقص الرجال منهم على أنغام الطبل و المزمار مؤدين رقصة " الجوبي " و من اللطائف التي كنا نسمعها منهن و هن يغنين هذه الإهزوجة البسيطة في كلماتها و العميقة في معانيها :
" أبو عكال لا تنقهر ... تره الأفندي كاله " هههههههههههههههههههههههه .
كانت هذه الإهزوجة تستجلب ضحكاتنا المستمرة و نحن مارين من أمامهن بملابسنا الجديدة بمناسبة العيد.
ملاذ شلة الحشيش وسرقة النقود.
كان الضريح من ناحية أخرى ملاذ " شلة الحشيش " حيث يقومون بجمع المبالغ التي وضعتها النساء مساء كل يوم و يذهبون بها لشراء ما يضمن لهم الإنتعاش , و كان مستمرين على هذا المنوال كل يوم و نهاية كل أسبوع . إلى أن جاء اليوم الذي كان المرحوم " سعيد ليلان " أثناء عمله مع المرحوم " عباس أوح " في مطعمه الشهير بالكبة اللذيذة , قد تعرض لمشكلة عائلية وسأل الله حلا ً لها ناذرا ً لوجهه أن تخلص منها فإنه سيقوم على خدمة الضريح مساء كل يوم .
في كل مساء بعد أن يغلق المطعم أبوابه كان " سعيد " يمتطي دراجته الهوائية و يقصد الضريح , مبتدأ بكنس الأرضية الترابية و قبة القبر و من ثم جلب الماء بالجردل من الساقية التي تخترق البستان ليرش الأرضية الترابية , و يأخذ له نصف ساعة أو أكثر في قراءة القرآن وبقبل مغيب الشمس كان يؤدي مراسم الزيارة من دوران حول القبر مقرونا ً بالدعاء و قراءة الآيات القصار من القرآن .
و بعمله هذا فوت على " الشلة " مسألة سلب النقود من فوق القبر و التي أعتادوا عليها لشراء عدتهم من الحشيش , الأمر الذي أستوجب عقد إجتماعات كثيرة بينهم للتداول في أمره و بحث الكيفية التي سيصلون فيها إلى النقود , لأن موضوعة الذهاب ليلا ً لجمعها كانت خارجة عن التصور بسبب ما زرعه الأهالي في أذهانهم و أذهاننا جميعا ً من أمور خارجة عن المنطق لكنها كانت سائدة في تلك الأيام , من قبيل رؤية الشيخ مختار مساء كل يوم و هو يذهب إلى الشاخة ليتوضأ لإستعدادا ً للصلاة , أو خروج الموتى من قبورهم التي تحيط بالأضرحة من كل جانب , و عن مشاهدات كثيرة للجان و الأرواح الشريرة .
في أحد تلك الإجتماعات تصدى " فاضل كندوري " للموضوع عارضا ً بأنه سيجعل مسألة ذهاب " سعيد " لخدمة الضريح في خبر كان طالبا ً أن لا يسأله أحد عن كيف و متى ؟
ظل " فاضل " يراقب " سعيد " أياما ً معدودة ليتمكن من ضبط موعد المغادرة من المطعم نحو الضريح بشكل تقريبي حتى توصل إلى موعد معين , و ذات يوم ما أن أبتدأ " سعيد بتجميع الكراسي تمهيدا ً لإدخالها المطعم إيذانا ً بإنتهاء يوم العمل حتى إختفى " فاضل " من موضع المراقبة , دقائق و أمتطى " سعيد " دراجته الهوائية متوجها ً نحو الضريح .
ما أن وصل هناك حتى أبتدأ بمهامه اليومية من كنس و رش و صولا ً لأداء مراسم الزيارة , لكن " فاضل " الي كان قد سبقه إلى هناك , كان قد تجرد من كامل ملابسه و دخل غرفة الضريح و أختبأ خلف القبر من الجهة المقابلة للباب و التي كان فيها شباك صغير ينفذ منه نور الشمس إلى داخل الغرفة .
ما أن دخل " سعيد " الغرفة مبتدأ ً لفته حول القبر حتى كان " فاضل قد لف هو أيضا ً ليكون على الجانب المقابل له دون أن يراه " سعيد الذي كان قد أصبح في المكان الذي كان " فاضل " مختبأ فيه وأصبح فاضل في لفته عند الباب و ما أن أسترسل سعيد في مناجاة الإمام و الدعاء حتى برز له " فاضل " واقفا ً و أشعة الشمس تسقط على جسده الأسمر و قامته القصيرة و هو يقول :
- تتدلل كل اللي أتريده أيصير
سقط " سعيد " مغشيا عليه لملم " فاضل " الدراهم و ركض خارجا ً ليرتدي ملابسه في الباحة الأمامية للضريح و يخرج من بين الأشجار دراجة هوائية كان قد أستخدمها ليصل إلى المرقد قبل " سعيد " و يقفل عائدا ً إلى المدينة ليلتقي بالشلة .
صحا " سعيد " من إغمائته وهو يرتجف ذهب إلى الساقية ليغرف الماء ويرميه على وجهه وهو لا زال في عز الصدمة لا يريد أن يصدق ما جرى , ولكنه في قرارة نفسه لا يريد أن يكذب عينيه .
" فاضل " مخاطبا ً الشلة :
- سوف لن ترون " سعيد " ذاهبا ً لأداء مهامه اليومية هناك بعد اليوم . و لا أريد أحد منكم أن يسألني كيف و لكني أضمن لكم الدراهم التي نجلب بها الحشيش .
" سعيد " موضحا ً لمن يسأله عن سبب إنقطاعه عن الزيارة :
- قابل أنا جايز من روحي ... بابه دا أدعي من الله بجاه الإمام و إذا القبر ينشق و يخرج منه الإمام بشحمه و لحمه و يقول لي :
كل ما تريده سيصبح حقيقة . بعد ما أوصل هناك لو ما أدري شيصير .
رحم الله أبناء مدينتي الأحياء منهم و المتوفين .
يتبع