حين تمر السنين
بقلم خالد الكاتب
حين تمر السنين (إيمان الشاوي) شرطي المرور الوحيد في المدينة آنذاك وعدد من أصحاب المحلات …
عمال التنظيف الصباحي وآخرون لا حصر لهم كانوا جميعا يترقبون بلهفة مرورها من أمامهم صباحا وهي ذاهبة الى ثانوية البنات المتميزات.
بخطواتها المنتظمة وتسريحة شعرها الفريدة وانفها الأسطوري جمالا وشموخا … أولئك جميعهم يحفظون جدول دروسها ومواعيد امتحاناتها.
بل حتى درجات امتحاناتها الشهرية رغم أنها ما كانت تلتفت في مشيتها ولا ابتسمت لأحد منهم بل ظلت طيلة سنوات دراستها الثانوية متفوقة وهادئة تزداد نضارة وجمالا مع الأيام.
لكن يبقى اتساع وجهها وامتلاء تلك المساحة المثيرة من ساقها تلك الاستدارة المكتنزة مع استدارة المعصم أشبه بسواتر حرب الثماني سنوات توهجا وصعوبة …
ما كانت تتأثر بعبارات الغزل والإعجاب وهي تمرغ إلى أذنيها التي كانت تنسرح عليها قصتها الفرنسية الساحرة ولا هزتها تصرفات عدد من طلاب إعدادية البنين وهم يتعمدون إسقاط كتبهم أمامها.
او يرمون زهورا طرية تحت خطواتها المتناسقة والمتأنية والحذرة ولا حتى مقاطع الأغاني التي يتعمد بعض أصحاب المحلات أن يسمعها لها لحظة مرورها من أجهزة تسجيل تم شرائها حصرا لاستجداء نظرة او ابتسامة او التفاته منها …
رسائل شفهية ومكتوبة طافت وتبخرت إمام لا مبالاتها و عفويتها وبراءتها … شرطي المرور ذلك الشاب الصبوح والمهذب كان الأكثر تعلقا بها قد انقلبت حياته يوم أنهت دراستها بتفوق ودخلت كلية الحقوق في بغداد.
لقد أدرك أن تلك الصباحات العذبة قد انقطعت وقطعت معها حبل آماله ووداده فطلب نقله الى مدينة اخرى …
أصحاب المحلات انتقلوا إلى طريق مرورها وهي ذاهبة عصر الجمعة من كل أسبوع الى موقف السيارات وسط المدينة شابة تأخذ معها الأبصار حيثما تنقلت …
عينت مديرة لإحدى دوائر المدينة في سنوات الحصار الصعبة وعادت دورة الحياة مرة أخرى ولكن بطريقة أكثر نضجا فراقبها وتابعها وحفظ جدول ذهابها وعودتها من دائرتها عدد من كبار الموظفين والمحامين وضباط الشرطة. ذاته شرطي المرور الذي عاد للمدينة بعد زواجه …
امرأة تشع كبرياء ليست نادرة الجمال لكن نادرة الذكاء والعفاف والتفوق والانتظام … تقرب وتودد لها كثيرون من أصحاب المقامات العالية في المدينة لكنها ظلت عصية ومخلصة لوظيفتها الى الدرجة التي جعلتها تفيض مهابة وقداسة …
لقد تمكن من النفاذ إليها … وللمرة الأولى وبعد أن جاوزت الأربعين من العمر صارت هي من تترقب رؤيته وتنتظر بشغف مشاكساته وغزله العنيف والساحق إلى قلعتها الحصينة …
تمكن بفعل جنونه بها أن يدمر بواباتها وحراستها ويحتل رغما عنها تاجها وعرشها حتى ما عادت تنام إلاّ هي تقرأ قصاصات أوراقه التي كان يرسلها إليها أو يضعها أمامها ويغادر وهو يختلق عذرا وأعمالا في دائرتها لا يجيدها إلا عاشق مذبوح أو شاعر مسكون بها وهو كان ذلك كله …
ظلت هي صامدة وسط النار والرعب والاضطراب تتذكره وتشتاق لمشاكساته وتحرشاته وألفاظه التي تخترق أستارها كلها وتردد في أعماقها لقد رحل من أستطاع أن يستفز هذا القلب ويكسر عنقه …
بينما هو يتشظى جنونا ويتمرغ شوقا إليها خاصة بعد أن وصل إلى سمعه أن ذلك الشرطي القديم بدأ يتقرب إليها ثانية بعد إن تقاعد وماتت زوجته …
وهي قد تقبله بعدما ضاعت أحلامها واجمل سنواتها وهي تحترق في اتون خرافة تسميها قداسة … حزم حقائبه وقرر العودة حتى لو تدحرج رأسه قبل الوصول إليها …