recent
أخبار ساخنة

مدرس الرسم" القادم من العاصمة.

Site Administration
الصفحة الرئيسية
رسام يرسم في الهواء الطلق من بغداد القشلة جمعة شارع المكتبات شارع المتنبي, مدرس الرسم القادم من العاصمة.

مدرس الرسم" القادم من العاصمة

قصة قصيرة : بقلم ... مالك المهداوي.

مر غريباً عن المدينة مدرس الرسم القادم من العاصمة، يحمل بين طيات أنامله أبداعاً وفناً واناقة. بلا إسم غريب الأطوار. 

مختلفاً عن الجميع في إرتداء الملابس عن بقية المدرسين الذين يرتدون البدلات الرسمية وربطات العنق الزاهية والانيقة.

شعره الطويل وتسريحة الشعر الغريبة, لون بشرتهِ الابيض عينان زرقوان تظهران خلف زجاج النظارة الطبية. متميز عن الاخرين في مدينة صغيرة محافظة. يغلب عليها الطابع العشائري وطبيعة العيب والانتقاد! كان يمثل الحداثة.

له شبه كبير بممثلي السينما الاجانب ملبسه بسيط يختار التناسق في الألوان يجلب الانتباه لمن يراه بهذه الاناقة وحسن الاختيار. 

أثار أعجاب شباب المدينة، كيف لايتميز عن الاخرين، إنه فنان ورسام، هو مدرس الرسم الجديد القادم من العاصمة.

قُدِمَ أَوَرَاقُ نُقَلِهِ إِلَى مُدِيرِ الْمَدْرَسَةِ وَسَكَنٍ فِي بَيْتِ الْمُدَرِّسِينَ الْوَافِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ, مُبْعَدَا بِسَبَبِ السِّيَاسَةِ وَتَبَدَّلَ وَضْعُ الْبِلَادِ مِنَ الْمَلِكِيَّةِ إِلَى الْجُمْهُورِيَّةِ, 

يُقَالُ أَنّهُ سَلِيلَ أَسَرَّةٍ تَرْبِطَهَا قَرَابَةْ بِالْمُلَّكِ الْمَخْلُوعِ مِنْ عُرُشِهِ, تَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ بِعِيد تَجَدُّ فِيهِ الْغَرابَة تَقْتَرِب وتَدنًّو إِلَيْهِ تَجَدُّ فِيهِ الْإِثَارَةُ وَالرَّتابَةَ وَالتَّرَفَ وَالْكِبْرِيَاءَ. 

تَعَجُّبٌ بِهِ وَبِأُسْلوبِ حَيَّاتِهِ , بَسيط غَيْرِ مُبَالِي لِلتَّقَالِيدِ وَالْأَعْرَاف وَالْقُيُود, غَزِير الثَّقَافَةِ, يَعْرُفَ مَدَارِس الرَّسْمِ الْقَدِيمَة وَالْحَديثَة, يَعْرُفُ الرُّسَّامَيْن وَاللَّوْحَات الْعَالَمِيَّة الْمُهِمَّة.

جُذِبَت فَطُرَّةُ الْفَنَّانِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا , مَنْظَرُ الْمَدِينَةِ والْبَسَاتِينَ وَالنَّخِيلَ الَّتِي تَحِيطُ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ هِي عِبَارَةٌ عَنْ وَاحَةِ جَمِيلَةٍ, تُشَبِّهَ الْجَنَّةُ بِوَصْفِهَا. 

يَحْمِلَ أَدَوَاتُ الرَّسْمِ وَيَتَّخِذُ زَاوِيَةُ يَخْتَارُهَا لِيَرْسُمَ السُّوقُ وَالنَّاسُ وَالْبَسَاتِينُ عَلَى طَبِيعَتِهَا, فِي بَادِئِ الْأَمَرِّ كَانَ يَتَعَرَّضُ لِلْفُكَاهَةِ وَالتَّنَدَّرِ وَالنَّقْد. 

غَرِيب تَصَرُّفِهُ عَلَى أهْلِ الْمَدِينَةِ الْبسطَاء , بَعْدَ مُدَّةٍ قَصِيرَة تَغْيِير النَّقْد إِلَى إِعْجَابِ بِفَنِّهِ وَإِبْدَاعِهِ , يَرْسُمَ الْوُجُوهُ الْبَائِسَةُ وَيَحُسُّ بِتَعَابِيرِهَا وَفِي مِهْرَجَان مَدْرَسَتِهُ وَجَدُوهُ مُنْزَوِيًَ وَتارِكَاً الْمِهْرَجَانِ. 

لِقَدْ وُجِدَ ضَالَّتُهُ فِي وَجْه رَجُلٍِ كَهَلْ هُوَ وَالِدُ أحَد الطُّلَاَّب لِيَرْسُمُهُ مِنْ بِعِيدٍ , هُوَ يَقْتَنِص اللّقطةُ الَّتِي تُعَجِّبَهُ مِثْلُ عَدَسَةِ ألَةَ التَّصْوِير وَيَشْكُلُهَا عَلَى ضَوْءِ خَيَالِهِ. 

أزدحمت غُرْفَة سَكَنِهِ بِاللَّوْحَات الَّتِي يَرْسُمَهَا كَلَمَّا ذَهَبَ إِلَى أهْلِهِ فِي أجازة يَحْمِلُهَا مَعهُ أَنّهُ يَعُدَّ لَوْحَاتُ لِلْكالِيَرِي الَّذِي يُنَوِّيَ إقَامَتُهُ فِي الْعَاصِمَةِ.

لَهُ الْفُضُلُ فِي اِكْتِشَاف الْمَوَاهِبِ وَتَخْرُجُ مَنُّ بَيْن يَدِيَّهُ الْفَنّانِينَ وَالرُّسَّامَيْنِ وَالنَّحَّاتِينَ مِنْ أَبِنَاءِ الْمَدِينَةِ وَأَثَّرَ بِشَكْلِ كَبِيرٍ عَلَى حَرَكَة الْفَنِّ فِيهَا. 

فَهُوَ شُعْلَةُ مَنْ نشَاط تَتَّقِدُ لِتَنْثُرَ جِمَالُ الْفَنِّ بَيْنَ شَبَاب الْمَدِينَةِ لِيَتْرُكُ بَصْمَاتٌ لَا يَمُّكُنَّ أَنْ تَنْسَى.

تَزْدَحِمُ الْأَفْكَارُ وَتُكَادُ تُؤَرِّقُهُ كَأَنّهَا تُلَازِمَ خَيَالُهُ فِي الصَّحْوِ وَالْمَنَامِ يَخْرُجُ دَفْتَر مُذَكَّرَاتُهِ الصَّغِير وَيَمْسُكُ الْقَلَمُ لِيَسْجُل الْفِكْرَة لِيَصْنَع مِنهَا مَوْضُوع لِرَسْمِهِ الْقَادِمِ. 

إنّهُ دَقيقٌ فِي التَّخْطِيطِ بِصُورَة مُنْقَطِعَة النَّظِير قَرَّرَ أَنْ يَعْمَلَ رحلة الى الْبَرِّيَّةَ بَعيدًاً عَنْ صَخَب الْمَدِينَة وَالنَّاس بَعْدَ أَنْ كَانَ عَائِدَاً مَنِ الْإجَازَةَ. 

وَبِذَلِكَ الْبَاصَ الْخَشَبِيَّ يُمِرُّ بِالْقُرَى وَالْأَرْيَاف وَالْمُزَارِع وَالْبَسَاتِين كَانَ فَصْلُ الرَّبِيعِ عَلَى جَانِبَيْ الطَّرِيقِ يَطْرَحُ أَلْوَانُهُ المكتسية بِاللَّوْنِ الْأَخْضَرِ عَلَى مُدّ الْبَصَر.  

لقد هَالَّ الْمَنْظَرُ مخيلتةُ وَأَسْتَجْمِع بنَاتَ أَفَكارَةُ وقرر عِنْدَ وُصُولِهُ الى دَار سَكَنِ الْمُدَرِّسِينَ أَنْ يَخْرُج مِنَ الدَّوَامِ فِي الْيَوْم التَّالِي بَعْدَ أَخَذَ مُوَافَقَة الْمُدِير عَلَى إجَازَة زَمَنِيَّهُ. 

فِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ جَمعَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ أَلَيِهِ أَوْيَسْتَطِيعُ حَمَلُهُ مَنْ أَدَوَاتُ الرَّسْمِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْأَقْلَاَمِ وَاللَّوْحَاتِ الَّتِي لَمْ يَرْسُمْ عَلَيهَا بَعْد. 

وضِعَ الْأَشْيَاءَ الصَّغِيرَة فِي حَقِيبَة الظّهْرِ الْعَسْكَرِيَّةِ. الَّتِي تَحَمُّلٌ عَلَى الظُّهْر لِقَدْ كَانَتْ غَرِيبَةً بَعْضُ الشئ عَلَى رَجُلٍ مُدُنَيْ أَنْ يَسْتَخْدِمَ هَذِهِ الْحَقِيبَة.       

كَذَلِكَ جَهَزَ الْكُرْسِيّ الصَّغِير الَّذِي يَنْطَوِي لِسُهولَة حَمَلِهِ مَعَ مُسْنَد اللَّوْحَات الْخَشَبِيَّ وَعُلَب مَنِ الطّعَامَ الْجَاهِزَةَ, وَاِسْتَرْخَى عَلَى سَرِيرِهِ لِكَيْ يَنَامَ عَلَى مَضَضٍ وَأُغْلِقَ عَيْنِيُّهُ وَنَامَ .

اِسْتَيْقَظَ صَباحَاً وَذَهَبٌ إِلَى دَوَام الْمَدْرَسَة وَطِلَب مَنِ الْمُدِير إجَازَة لِيَذْهَب إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَوَافَقَ الْمُدِيرُ عَلَى طِلَبِهِ. وبَعْدهَا تَوَجُّهٌ إِلَى مَوْقِف عَرَبَاتٍ الَّتِي تَجُرَّهَا الْخُيُولُ( الرَّبْلَ).

أَتَفِقُ مَعَ الحوذي (العرَّبنجَي) عَلَى أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى مَسَافَة بَعيدَةٍ عَنِ الْمَدِينَةِ الى مِنْطَقَة جَنُوبِ الْمَدِينَةِ وَهِي مِنْطَقَةُ مَفْتُوحَةُ تَتَخَلَّلَهَا هِضَابُ وَسَهُولُ وَكَثِبَانِ رَمْلَيْهِ. 

تَحَرَّكَتْ الْعَرَبَةُ بَعْدَ حَمَلِ الامتعة متهادية وَمُوسِيقَى حَوَافِرِ الْخَيْلِ الَّتِي تَقْرَعَ شَارِعُ الاسفلت بِحَذْوَاتِهَا الَّتِي كَانَتْ مَنُّ الْحَديدِ كَيْ تُحَافِظَ عَلَى حَوَافِرِ الْخَيْلِ مِنَ الْاِحْتِكَاكِ وَالسَّوْفَانِ.

هُنَالِكَ عُمَّالَ يَصْنَعُونَ وَيَرْكَبُونَ الْحَوَافِرَ الحديديه وَيَسْمُوَنَّ صَاحِبٌ هَذِهِ المهنه ( نَعِلَبَنْدُ). , يَجِدُ الحوذي فِي السِّيَرِ وَلُغَة العربنجي لِلتَّفَاهُمِ مَعَ الْحِصَانِ الَّتِي يَعْرُفَهَا , لِحَثَّهَا عَلَى السِّيَرِ مَاسِكَاً المَقُودُ لتَوْجِيهِهَا بِوَاسِطَةٍ أَشَرْطَة جِلَدَيْهِ يَمْسُكَهَا بَيْدَةُ وَالسَّوْطُ الَّذِي نَادِرًا مَا يستخدمة.

أَسْتَأْذِنُ الحوذي (العربنجي) مِنَ الْأُسْتَاذ لِكَيْ يَسْمَعَهُ ما يحفظ مِنْ أَغَانِي الْمَقَامِ والبسته, فَأُذْنٌ لَهُ الاستاذ بَلْ طَرَب لِمَا يغنى مِنْ أَبِيَّاتِ الشَّعْرِ وَالأَجَادَتْهُ لِلطَّرَبِ وَالْفَنِّ. 

اِنْتَهَى الْمُسَيِّرُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُعَبَّدِ وَبَدَأَ الْمُسَيِّرُ عَلَى الطَّرِيقِ التُّرَابِيِّ وَالْبُيُوتِ تَمْر بِهَا الْعَرَبَةَ وَهِي عَلَى جَانِبَيْ الطَّرِيقِ وَبَسَاتِين النَّخِيلِ الْبَاسِقَات تَخْبَأُ الشَّمْسُ تَحْتَ أَغْصَانِهَا تَارَةَ تَخَرُّج تَارَةَ أُخْرَى.       

تُخْتَبَأْ بَيْنَ أَحِصَانِ سَعَف النَّخِيلِ وَالْبُيُوتِ مُتَنَاثِرَةُ هُنَا وَهُنَاكَ.. لِقَدْ اُسْتُغْرِقَ وَقْتُ طَوِيلٍ فِي الْمُسَيِّرِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ.

وُصَلٍ إِلَى مَرْحَلَةٍ لَمْ يَعِدْ يرى النَّخِيلَ وَالْقُرَى الْمُحِيطَةَ بِالْمَدِينَة لِقَدْ اِنْقَطَعَتْ الطُّرُقُ وَبَدَأَت الْعَرَبَةُ تُسَيِّرُ عَلَى غَيْرُ هُدَى بِاِتِّجَاهِ نَّخَلةٍِ وَحَيْدَةِ وَسَطِ الْبَرِّيَّةِ.

هُنَاكَ إِلَى بِعِيدِ! زَيْتونَةِ وَسَطِ الْحَشَائِشِ الْخَضْرَاءِ. تُوَقَّفَ العرَّبنجَي عِنْدَ هَذِهِ النّخلة لِكَيْ تَعْتَبِرَ مَثَابَةَ وَاضِحَةً. حَتَّى لَا يُتَيَّهْ فِي الْبَرِّيَّة. 

تَرْجَلَ الإثنان مِنَ الْعَرَبَة وَقَالَ الْأُسْتَاذُ إِلَى للعرَّبنجَي عُدّ أَنْتَ أَدْرَاجُكَ وَأَنْتَظِرُكَ عِنْدَ الْمَسَاءِ وَفِي هَذَا الْمَكَانَ بَعْدَ أَنْ اِغْدَقْ عَلَيهِ بِالْعَطَاء.

حَمْل مُدَرِّسِ الرَّسْمِ الْحَقِيبَةَ عَلَى ظُهْرِهِ هِي وَمُسْنَدُ اللَّوْحَاتِ وَهُمْ بِالْمُسَيِّرِ إِلَى الْإمَامِ وَالْعَرَبَةِ عَادَّتْ أَدرَاجُهَا, وَسَارَّا بِاِتِّجَاهَيْنِ مُتَعاكِسِينَ حَتَّى اِبْتَعَدْتِ الْعَرَبَةَ وَلَمْ تَكُدْ تُرى مَنِّهَا غَيْرِ سَرابَاً أسْوَدَاً. 

 الْأُسْتَاذُ يَغُورُ فِي أَعْمَاقِ الْبَرِّيَّةِ الْوَاسِعَةِ وَوُصَلٍ إِلَى جَدْوَلِ صَغِيرِ وَمَاءهُ جَمِيلِ شَفَّافِ يَخْتَرِقَ الْوَاحَةُ الْخَضْرَاءُ وَتَحْتَضِنُهُ وَرَوْدُ الْأُقْحُوَانِ الْبَيْضَاءِ لِتَجْعَلُ مِنَ اللُوِّنَ الْأَبْيَض لَوْحَة فَنَّيْهِ جَمِيلَةَ تَتَخَلَّلَهَا أَلْوَانُ الْوُرُودِ الْأُخْرَى.

هُنَاكَ الى بِعِيدِ وَبَيْنِ الاعشاب الْخَضْرَاءَ شقائق النُّعْمَانِ بتَجْمَعُهَا فِي مَكَانِ وَاحِدٍ أَوْ أُمَّاكُنَّ مُتَعَدِّدُهُ تبدو كَأَنّهَا لَوْحَةَ حَمْرَاءَ جَمِيلَةَ. 

نَسَمَاتِ الْهَوَاءِ الْبَارِدَةِ تَهُبُّ وتُدَاعِبَ أَنْفُهُ وَهُوَ يَدُورَ حَوْلُ نَفْسهُ كَالْْمَجْنُونِ ويرى الْأُفُقَ خَطٌّ أَسُودٌ وَهْمَيْ الَّذِي يُفَصَّلْ بَيْنُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ تَتَخَلَّلُهَا الْهِضَابُ الصَّغِيرَةُ المكتسية بِاللَّوْنِ الأَخُضَرٌ. 

 الْأَرْضُ لَوَّنَهَا أَخُضَرٌ والسَّمَاءَ لَوَّنَهَا أَزُرَّقٌ وهُنَاكَ بَعْضُ مِنَ الْغُيُومِ الرُّكامِيَّةِ الْبَيْضَاءِ عَلَى شَكْلِ نُتَفِ مِنَ الْقُطْن تُزَيِّنُ كَبِدُ السَّمَاء. 

أَحُسُّ بلإنتشاء لِأَنّهُ يَتَمَتَّعُ بِهَذَا الْجِمَالَ مُنْفَرِدًا وَيَدُورَ حَوْلُ نَفْسهُ تَارَةَ وَيَرْقُصُ تَارَةَ أُخْرَى وَيَرْتَمِيَ بَيْنَ الْحَشَائِشِ لَمْ تَسَعْهُ الْفَرِحَةُ بَلْ أَصْبَحَ يَرْكُضُ الى هُنَا وَالَى هُنَاكَ مِثْلُ عَصْفُورِ هَرِبَ مِنْ قَفَصهِ أَوْ سَجِينٍ أَفُرَجٍ عَنهُ لِلتَّوِّ.       

أَحُسَّ أَنّهُ حُرٌّ بِلَا قُيُودِ. السُّكُونِ يَلُفُّ الْمَكَانُ حَتَّى أَنّهُ يَسْمَعَ طَنِينٌ فِي أُذْنَيْهِ أَوْ يَسْمَعَ صَفِيرُ الرِّيَاحُ الَّتِي تَهُبُّ بَيْنَ الْحَيْنِ وَالْآخِرِ. 

لِقَدْ هَرِبَ مِنْ ضَوْضَاءِ الْمَدِينَةِ وَتَلْوَثُ الْهَوَاءُ فَهُوَ يَشَمُّ هَوَاءً عَذَبَاً عَبِقًاً وَبِكِلْتَا مَنْخَرِيَّهُ لِيَمْلَأَ صَدْرُهُ بِنَسِيمِ الْهَوَاءِ النَّقِيِّ الَّذِي يُشْفِيَ الْعَلِيلُ. لَمْ يَكِنْ يَحْلَمُ بِهِ 

أَنْه يَبْتَعِدَ عَنِ النَّاس وَحَيْدَاً مُنْفَرِدَاً. أَخَذَ يَكْلِمَ نَفْسهُ بِصَوْتِ عَالِيٍّ وَيُصَيِّحُ فَيَأْتِيَ الصَّدَى إِلَيْهِ وَيَقْطَعَ السُّكُونُ صُوِّتَ دِيكُ الدّرَاجِ الَّذِي يَبْحَثُ عَنِ الْأُنْثَى وَصَوْتِ الْقُنْبُرَةِ وَطُيُورِ أُخْرَى.

حِينَ اُسْتُنْفِذَ الْفَرِحَةُ وجَاءَ وَقْتُ الْعَمَلِ أَعُدُّ نَفْسهُ لِيَرْسُمُ , وَأُخِذَتْ الْأَفْكَارُتَتَقَاطَرُ فِي رَأْسِهِ لبُرْهَة لِيَرْسُمُهَا, وَضُعَ اللَّوْحَةُ عَلَى مُسْنَدِهَا وَأُخْرِجَ عُدَّةُ الرَّسْمِ مِنَ الْحَقِيبَةِ. 

بَدَأَ يَخْلِطَ الْأَلْوَانُ وَيَضْرِبُ الْفُرْشَاةُ بِهَا ثُمَّ يَطْرُقُ عَلَى اللَّوْحَةِ لِيَرْسُمُ. أَخَذَ مِنهُ الْعَمَلَ وَقَتَا طَوِيلَا وَالشَّمْسُ تَنْزَلُ الى الزَّوَالَ مَائِلَةٌ وَهُوَ لَا يَدْرِي ومُنْدَمِج فِي عَمَلهُ. 

أَشِعَّة الشَّمْسِ الْجَمِيلَةِ تُعَانِقُ رُسُومُهُ وَخُطُوطَهُ حَتَّى بَدَتْ الشَّمْسُ تُرِيدُ أَنْ تُعَانِقَ الْأُفُقُ. لِقَدْ نُسِّيَ الْمَوْعِدُ وَنَسْي كُلَّ شئ. إِنّهُ هَوَس الْفَنِّ وَالْجِمَالِ وَالرَّوْعَةِ. 

هُبِطَتْ الشَّمْسُ وَبَدَتْ صَفْرَاءُ فَأَعْجَبَهُ الْغُرُوبُ ولَوْنَهَا الَّذِي يَمْيَلُ إِلَى لَوْن أَصْفِرَ بِهَيْجٍ وَهُوَ يَتَأَمَّلُ هَذِهِ اللَّحَظَةَ الْبَسيطَةَ مِنَ الْوَقْتِ الَّتِي لَا تَتَجَاوَزُ عَشَّرَهُ دَقَائِق.

بِالْكادِ دَخِلَتْ الشَّمْسُ فِي مَخْدَعِهَا وَبَدَأَتْ الظَّلِمَةُ تُلَوِّحُ بِالسَّوَادِ مِنْ جِهَة الشُّرْقِ وَتَلُفُّ الْعتمةُ أَرَجَاء الْمَكَانِ.

هُنَا بَدَأَ اللَّيْلُ بِالدُّخُولِ وبِدُخُولِهِ دَخْل الْخُوَّفِ وَالْوَجَلِ إِلَى قُلَّبِهِ وَأَخَذَ بِالْمُسَيِّرِ بِاِتِّجَاهِ مَكَان الْمَوْعِدِ قُرِبَ النّخلةُ. لَمْ يَعِدْ يراها. 

وَهُوَ يرى النُّجُومَ فِي كَبِد السَّمَاءِ وَهِيَ وَاضِحَةُ تَخْتَلِفُ كَأَنّهُ لِأُوِّلَ مرَّةُ يراها فَهِي وَاضِحَةُ وَجَلِيَّةُ لِقَدْ جَعَلَ التَّلَوُّثُ الضَّوْئِيُّ يَفْقِدُ جِمَالُ السَّمَاءِ وَنُجُومِهَا فِي الْعَاصِمَةِ. 

لَمْ يَكِنْ يَعْرَف مَوَاقِعُ النُّجُومِ وَلَيْسَ لَهُ دِرَايَةُ بِنَجْمَةِ قُطْب الشّمَالِ وَبنَات نَعْش وَالثُّرَيَّا وَالْعَقْرَبَ وَكُلُّ مَا يَعْرُفَهُ الْبَدْوُ مِنْ خِلَاَل مُسَيِّرِهِمْ بِالصَّحْرَاءِ لَيْلًا. وَكَيْفَ يَتَمَ الْاِسْتِدْلَاَلُ بِهَا.

وَأَخَّرَ الْمَطَافُ فَقَدْ مَسَارَّهُ وَبَدَأَ يَسِيرُ بِاِتِّجَاهَاتٍ خَاطِئَةٍ وَمِمَّا زَادَ الطِّينُ بَلَّة هِي أَصْوَاتُ الثَّعَالِبِ وَاِبْنُ آوَى وَحَيَوَانَاتُ تَتَّخِذَ مِنَ اللَّيْلِ مَرْتَعَا لِهَا. 

لَمْ يَعْرُفْ هَلْ هِي ذِئَابُ أَمْ شئ غَيْرهُ لَمْ يَعِدْ يُفَرَّقْ بَيْنُهَا مَنِ الْخُوَّفَ وَهُوَ يُدَوِّرُ ليرى أَيُّ بَصيص لِلْأَمَلِ عَسَى يرى اِتِّجَاه أَضْوَاء الْمَدِينَةِ. 

وَلَكِنَّ ... هَيْهَاتَ... لِقَدْ مُنِعَتْ نَخِيلُ الْبَسَاتِينِ أَنْ يَصُلَّ الضَّوْءُ إِلَيْهِ لِكَيْ يَسْتَدِلَّ عَلَى مُوَقِّعُهُ. تَوَقُّفٍ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ جُهْدِ التَّفْكِيرِ وَالْخُوَّفِ فِي آنَ مَعَاً. 

اُحْسَ بِالْبُرْدِ فَجُمْعِ الْحَطَبِ مِنَ الشَّوْكِ الْيَابِسِ هُنَا وَهُنَاكَ. لِيَشْعَلَ النَّارُ وَتَكُونُ دَليلَا لِمَنْ يراه مِنْ بِعِيدِ لَعَلَّ أحَدَ يراه كَيْ يَسْتَدِلَّ عَلَى مَكَانِهِ وَيَدِفْء نَفْسهُ من الْبُرْدِ. 

فِي الْجَانِبِ الْآخَر لِقَدْ عَادَ الحوذي (العرَّبنجَي) إِلَى مَكَانِ النّخلةِ بِنَفْسُ الْمَوْعِدَ الْمُتَّفِقَ عَلَيهِ وَعَنْدَمَا تَأَخُّرِ الْأُسْتَاذِ عَنِ الْمَوْعِدِ كَثِيرًا خَافَ أَنْ يَدْخَلَ إِلَى بِعِيدٍ وَيُضَيِّعَ مُوَقِّعُهُ. 

فَعَادَ الحوذي أَدْرَاجُهُ إِلَى أَقُرُبِ قَرِيَّةٍ لِيَسْتَعْيُنَّ بِهُمْ عَلَى الْبَحْثِ عَنِ الْأُسْتَاذِ الَّذِي تَاهَ فِي الْبَرِّيَّةِ. وَعَنْدَمَا وُصَلٍ إِلَى الْقَرِيَّةِ وَقَال لِهُمْ الَّذِي جَرَّى. 

هَبُّو أهل القرية لِلنَّجْدَةِ حَامِلِينَ مَعهُمْ الْمَشَاعِلَ وَوَصَّلُوا الى مَكَان النّخلةِ والْموُقَّعِ الْمُتَّفِقِ عَلَيهِ وَتَرَجَّلُ الجميع وَتُوَزِّعَ .

دَخِلُوا فِي الْبَرِّيَّةِ وَبَعْدَ مُسَيِّرِ طَوِيلِ لَاحَ لِهُمْ قَبَسَ نَارُ مِنْ بِعِيدِ وَلَمَّا اِقْتَرَبُوا مِنهُ أَخَذُّوا يُنَادُونَ بِصَوْتِ عَالِي ...أُسْتَاذِ... يا أُسْتَاذٍ. 

سَمْعَ الأُسْتَاذِ أَصْوَات مِنْ بِعِيدِ تَنَادِيهُ أَيَقَنٍ أُنَّ النَّجْدَةُ قَدْ وَصَلْتَهُ فَأَجَابَهُمْ بِأَعْلَى صَوْتهُ أَنَا هُنَا وَوُصِّلَ الْجَمِيعُ أَلِيهَ وَمَشَاعِرُ الْفَرَحِ الْمُفْرِطِ وَحَمِدَوا اللَّهَ عَلَى سَلَاَمَتهُ.

أَيَقَنٌ الْأُسْتَاذ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمُّكُنَّ لَهُ أَنْ يُعَيِّشَ مُنْفَرِدَا بَعيدَا عَنِّ النَّاس فَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْعُرُ بِالسَّعَادَةِ عَنْدَمًا يَكْوُنَّ متعايش مَعَ الْمُحِيطِ وَالْمُجْتَمَعِ الَّذِي هُوَ حَوْلهُ. 

الْمُجْتَمَعَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَوَاصِر مُتَّصِلهُ بَعْضِهَا بِبَعْضُ وَأَنْ فَقُدَّتْ أَصُرَّةُ تَفَقُّد الْأَوَاصِرِ الاخرى نجَاحُهَا وَدَيْمومَتُهَا. 

أن كُلُّ مَبَادِئ الْمُجْتَمَعِ الْمُتَكامِلِ. ولايمكن أَنْ يُعَيِّشَ مُجْتَمَعُ مُنْعَزِل فِي بَلَد وَاحِد دُونَ التَّعَامُلِ وَالتَّكَامُلِ. 

هِي سَرَّ السَّعَادَةُ أَنْ تَكَوُّن مَعَ النَّاسِ وَتَتَفَاعَلُ مَعهُمْ فِي أحْزَانهُمْ وأفراحهم.

بقلم :ـ مالك عبد القادر المهداوي
google-playkhamsatmostaqltradent