مقهى ابو غصوب " مقاهي شهربان الزمن الجميل.
بقلم ... ابن شهربان. Ibin Shahraban
مقهى ابو غصوب من مقاهي شهربان الزمن الجميل. كتب ابن شهربان في سلسلة منشورات كتبت عن مقاهي شهربان على شكل أجزاء.
أود ان أبدأ منشوري بهذه الكلمات المرسومة بمداد من الوجع التي وصلتني من الأستاذ الحكيم كريم كبه. " لمقاهي شهربان طقوس في الصيف فهي تختلف عنها في الشتاء لخصوصية المناخ.
ففي الشتاء تزدحم المقاهي في الداخل والكثيرون يحيطون بالصوبة الكبيرة. وحينما تهبط درجة الحرارة تسدل بطانية سميكة على الباب تدفع باليد عند الدخول والخروج وإذا صادف رمضان فيا محلاه في تلك الليالي وبردها القارص.
لقد شهدت مرة لعبة الصينية في مقهى ابو غصوب وتم توزيع الحلويات على الجميع والصائم في رمضان شتاءً إذا جلس في المقهى المجازة يعطى حلقوم يأخذه معه وهو حلقوم ابو الدمعة وسمي كذلك لان ضغطة بسيطة على الحلقومة ستسيل حلاوة ناعمة كدمعة بنت جميلة.
كلمات تداعب مشاعر شهربانيِّ تلك السنين وتلامس قلب كل شهرباني مازال يتذكرها.
ليالي شتاء شهربان الجميلة والصوبه الكبيرة التي تشع الدفء والبطانية المنسدلة على باب المقهى وأيام رمضان ولعبة الصينية وصياح متعة اللاعبين والحلقوم ابو الدمعة الذي يشبه دمعة البنت الجميلة.
فهل ما زلتم تتذكرون الحلقوم أبو الدمعه ؟.
لاحظ المفردات الجميلة الخالية من الخوف والبعيدة جدا من الألم . المفردات التي تقع في الطيف بعيدا عن مفردات اليوم السائدة.
ليس هناك كلمة واحدة فيها عن طائفية او تهجير او خطف او قتل على الهوية وغيرها من مفردات رعب هذه السنين .
تفاصيل حياة بسيطة ومسكينة لكنها جميلة مسالمة خالية من الهم وقد افتقدناها كثيراً... وأول ما افتقدناه هي لمتنا وتقاربنا المكاني .
هي كانت دقائق معدودات ونلتقي في مقاهي المدينة او في سوقها بدون خدمة الواتساب او الفايبر او البلوتوث او التكست مسج ... فكيف سنلتقي الآن وكل فرد منا يعيش تحت نجمة ~ وان التقينا فهل فعلا سوف نفرح ونبتهج كما كنا حتى وان التقينا.
سيكون فرح يشبه البكاء سنضحك لدقائق بعدها نكتئب للعوق النفسي اللا مندمل الذي شرخته المصائب في قلوبنا ... عني ... افتقدت المكان في مدينة عشقنا الأزلي شهربان.
- افتقدت شوارع ودرابين ومدرسة ومكتبة ونخيل وعطر قداح ورمان ناري وحديقة الزعيم وكلوب (قلوب) صافية وأقران وطلاب صف وأصدقاء الدرابين وافتقدت وجوه جيراني.
- افتقدت والى حد الحزن الإنسان الشهرباني الصادق النظيف الطيب البسيط الحنين غير المنافق.
- افتقدت وجوه بسطاء مدينتي وكادحيهم وسكان الرصيف والبسطه والفلكات ...
- افتقدت بائعي الخبز والمتبضعين في فضوة الخبز وسوق الفافون وسوق (سوك) الكصاصيب ...
- افتقدت براءة الناس وطيبتهم وقناعتهم بالمقسوم ... افتقدت قناعة الناس وتراحمهم وتواددهم ورضاهم بالقليل ...
- افتقدت المقاهي ( الكهاوي ) ~ و لن يزعلني ان حملت لقب "صايع" على قنفاتها في عصاري خميسها وجمعتها الخرافية أو في ليالي رمضانها ومحيتها وصباح عيدها.
وجع حنيني لديرتي وأهلها الغوالي استعبدني وسأكتب عن واحده من مقاهيها الجميله كانت عامرة بأهلها وروادها.
سأخبركم اليوم عن واحدة من واحات سوق شهربان التي كانت تزهي ذات يوم ~ ياحيف ~ سأخبركم عن اليوم عن قهوة ( كهوة ) ابو غصوب الانسان الجميل.
بعد ان تمكنت وبعد نضال طويل ان اشتري اول بايسكل في حياتي (ماركة كومريت اسود اللون).
ذهبت به الى سوق شهربان القديم قاصدنا محل (دكان) الرجل الطيب ابن محلتي وسابع جار لنا السيد محمود غائب البايسكلجي (الراحل صورته مرفقة) كي اضع مرايات وطوبات ملفوفة ملونه.
كان الأطفال يضعونها على اطارات (تايرات) البايسكل وعندما تدور العجلات تدور التلافيف الملونة فتجعلك تشعر بالزهو والفرح.
حين وصلت المحل عرفني وهَلَّهَ بي (رحب) مع أنّي لم اسلم علية يوماَ من الأيام (خجل اطفال تلك السنين).
وهو مشغول بربط المرايا والتلافيف جاء صاحب المقهى المجاور يحمل استكان شاي ينبعث منه البخار (يبدو بان السيد البايسكلجي قد طلبه قبل وصولي).
فقرص صاحب المقهى (كرص) أذني ثم قال لي هذه العبارة التي جعلتني اشعر بالزهو (نفشت ريشي). قال (أي عمي بعد شيحجيك عندك أحلى بايسكل... ليته كان يعرف كم حفيت حتى اشتريته!) .
بعد ان رجع الى مقهاه سألت السيد محمود البايسكلجي (عمي محمود هذا منه ؟ كنا نستخدم مع الكبار كلمة عمي وليس عمو!!) فقال هذا أبو غصوب ...
وهي المرة الأولي التي اراه او اسمع صوته او اعرف اسمه... رجل اسمر فرحان يضحك وهو يكلمك حتى وان كان الموضوع غير هزلي! يلبس الشماغ العربي ولكن على شكل (جراوية).
وحين مسحت سنين عمري العابرة كل شيئ عن هذا الرجل إلا أنها حفظت شيئا واحداَ عنه وهي ضحكته وتعابير وجهه عندما يحدثك فقد التصقت بذاكرتي وصارت هي طابع وتوقيع السيد ابو غصوب المسافر معي .
جميعنا نتوق للبشاشه ... نرغب أن نكون بشوشين واغلب الناس ومهما كانوا نكديين يبتسمون لك على الاقل بعد تخطي بروتوكول الرسميات او المقدمات.
ان فكرتوا فيها فإن الابتسام في الغالب يبدأ مع الكلام او يتبعه ونادرا ان يبدأ قبله ~ خصوصاً عندما تقابل شخص لأول مره.
أذْ اغلب الناس ينتظر ان يبدأ المقابل لكي يتفاعل فتشتغل لغة الجسد بتعابيرها المعروفة ومنها الابتسامه. فهي - الابتسامة - تأتي متزامنة تماما مع الكلمة الأولى او هي تعقبها.
لم أصادف في حياتي الا عدد قليل من الناس تسبقه ابتسامته كلامه وان واحداَ من هؤلاء القليلين هو الانسان الطيب الراحل ابو غصوب.
ابتسامته هي ردة الفعل الأولى وتسبق حركته وكلامه أيا كانت حركته يليها الكلام بعد فاصل زمني ملحوظ.
ليس هذا فحسب اغلبنا حين يبتسم نكاد نرى حدود ابتسامته الجغرافية على خارطة الوجه. لكن ابتسامة ابو غصوب ليس لها حدود جغرافية. اغلبنا حين يبتسم فهي حركة الشفاه وظهور الاسنان ولغة العيون.
لكن ابتسامة ابو غصوب شيء حميم حي تكاد تحضنك وكأن لها ذرعان. هي شمولية حنينه ترحب بيك وتهلّي بملاقاتك وتتكلم معك وتطمأنك وتطبع لديك معالم الفرح والرضى. فهذا الإنسان يتفاهم مع الناس ومنهم زبائنه بنسبة ٧٥ % ابتسام و٢٥ % كلام .
انه انسان نادر الطيبة والألفة. انطباعي هذا عن بطل منشوري هو ليس وليد اليوم اقصد به ان اجامل أولاده وأحفاده. انما هو انطباع عمره يساوي عدد سنين عمري الشهرباني.
مقهاه التي اغلبكم يتذكرها والتي تقع وسط شارع السوق الرئيس بين محلي السيد محمود البايسكلجي ومطعم كبة السيد ابو مالك قرب فلكة السوق الوسطى على جهة السوق المحاذي لمحلة المصاليخ.
كانت عبارة عن نادي أجتماعي لأهل شهربان ومكان لقاء لأهل القرى وشيوخ العشائر ومكان لقضاء الوقت والتحدث لشباب شهربان الزمن الجميل خصوصاَ القنفات المطلة على الشارع العام ( صورة مرفقة ) .
في سنين ثورة تموز والسنين التي تلت صارت ملتقى لأهل مدينة شهربان من هم ذوي الميول القومية.
السيد ابراهيم علوان خميّس (ابو غصوب) إنسان عراقي وطني بالفطرة ومن أقرب أصدقائه هم السادة صبري طيارة وحسين رشيد.
ولد الراحل ابراهيم علوان خميّس (ابا غصوب) في العام ١٩٢٨ في قرية العمرانيه وسكن مدينة شهربان ...
بدأ العمل منذ طفولته في مقهى الجماهير مع اخوه الشقيق الراحل عبد الله الهاشم. ثم تدرج في هذا العمل الى ان تمكن من شراء الكهوة آنفا.
هو من سكنة ام الدنيا محله النجاجير ثم انتقل بعدها الى قرية سلامة. الى ان استقر سكنه في حي فلسطين ...
لا يقرأ ولا يكتب لكنه انسان ذكي فطريا فنجح في مهنته وخدم أهل مدينته وعاش حياته فيها حباً وطيباً وترك أثراً طيباً.
قام بتربية عائلة كبيرة تتكون من عشرة افراد (سبع بنات وثلاثة اولاد) ~ كنا نعرفهم ونراهم في الطريق ودروب المدارس ولكن لم نسمع أصواتهم شباب مهذب متزن لن تخرج مثلهم ارقى مدارس التربية والتهذيب في العالم ...
أولاده هم
- السيد غصيب مهندس زراعي أسير لمدة ٢٢ عام وعاد بعد ٢٠٠٣ ساكن في بيت والده لحد الان في حي فلسطين ...
- السيد خليل معاون طبي في مستشفى المقدادية لحد الان ..
- السيد علي / ضابط سابقا ...
حروب العراق وحزنه على ولده الأسير في إيران لاثنين وعشرين عاما وأوضاع شهربان السيئة فضلا عن سنْة الحياة وتقدم السن تقاعد عن مقهاه عام ٢٠٠٣ ...
ترك جنته التي عاصرت بحدود ستة عقود من سنين عمره الثماني والسبعين ليتفرغ لعائلته وأحفاده وهو نفس العام الذي عاد ولده الأسير غصيب من أيران .
الراحل ابراهيم علوان خميّس ( ابا غصوب ) أنسان كريم بشكل حاتمي قل نظيره وكنت اعرف من صديقي الأمير الراحل ناجح كبه (زوج إحدى بناته الماجدات).
بان هناك في دار ابو غصوب طقس استجمام عائلي سنوي صيفي يتكرر كل عام (لم شمل جميع بناته واولاده واولادهم) .
هم لا يسافرون للاصطياف في جزر البهاما او مصايف شمال العراق إنما الضيافة في بيت والدهم لثلاثة شهور العطلة الصيفية.
ليتحول بيته العامر الى بنسيون لاستقبال جميع بناته أولاده اولادهم دون كلل أو ملل فقط الضحكة الجميلة واليد المعطاء.
مراسيم تكرر كل عام كل اعوام والدهم الحنون (... بناته وأولاده ~ أعرف سأبكيكم لكنها معلومه محبوسه في صدري واطلقتها اليوم كي أذكركم به وتستحق الدموع )
توفي في العام٢٠١٠ بطل هذا المنشور بعد تلك الرحلة الشهربانية التي أمتدت الى أمد طويل فكانت مليئة بحوادث وقصص عديدة.
احبتي واصدقائي أهل شهربان الغالين هل عندكم مشاعر وذكريات او اضافات لهذا المقهى الجميل وصاحبه وعائلته ؟؟