عريس شهربان
جاسم عبد مراد البنا التميمي
الشهيد الملازم الأول الطيار
بقلم / الفريق الطيار الركن
قيس ربيع عبد الرحمن العبيدي
سيرة وذكريات عريس شهربان الشهيد الملازم الأول الطيار جاسم عبد مراد، يروي كاتبها تلك اللحظات والأيام والأشهر عندما كان الشهيد يعمل بمعية النقيب الطيار قيس ربيع كاتب هذه المذكرات.
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل لن يصيبنا الا ما كتب الله
لنا)
صدق الله العظيم / التوبة 105
يحق لي ولأبناء مدينتي شهربان أن نفتخر بواحد من أبنائها فهي مدينة ولاده للرجال فاليوم كتبت مقاله في ذكرى أستشهاد أبن من أبنائها البررة أنه الشاب الأسمر وأبن عائله معروفه في شهربان هو بيت عبد مراد البنا وقد كانت الأحداث قبل أكثر من 35 سنه واليوم قد مرت ذكراه مثل هذا اليوم.
لما وددت جمع المعلومات عن مواليد وحياة هذا البطل الشهرباني الشهيد الملازم الأول الطيار جاسم عبد مراد التميمي وجدت أن القليل ممن يتذكره، وتكاد تكون تلك المعلومات شحيحه، السبب أنه كان لديه أصدقاء منتخبين ومقربين لم أتمكن من الوصول إليهم، والسبب الأخر ابتعاده عن المدينة بسبب العمل.
كان يتصف بدماثة الخلق والهدوء يمر بك مثل نسمة باردة وعطرة لا يترك لها أثراً ألا ضوع الياسمين والقداح، صورته هدوء كلماته ودفئها، صورته لا تكد تفارق مخيلتي، كانت لقاءتنا في الاجازات عند مقهى صغيرة لصاحبها حسن "طكطك" لقد كانت ملاذ المنتمين الى القوة الجوية، عندما تكون أجازاتنا متوافقة.
ولد في مدينة المقدادية ~ شهربان~ كان والدة يعمل معمار دار أو أسطة بناء، دخل المدرسة وأكمل فيها الابتدائية والمتوسطة والاعدادية، مثابراً مجتهداً في الدراسة بالإضافة الى أنه كان يخرج بالعطل الصيفية مع والدة ليشتغل عامل بناء مثل كل الشباب.
في تلك الفترة من الزمان ليساعد نفسة ويحمل الأعباء عن كاهل العائلة ليكون مستقلاً بمصروفه وما يحتاج في العام الدراسي، تلك الأعمال صقلت شخصيته وجعلته يعتمد على جهوده الذاتية، وبنفس الوتيرة هو مستمر بالنجاح والتفوق بالدراسة.
أكمل الدراسة الاعدادية في سنة 1974 وهنا تبدأ حركة البحث للتقديم الى الجامعات والكليات والمعاهد عن طريق النموذج المركزي للتعليم العالي الخاص بالاختيارات التي يرغب بها الطالب، يتم فرز الطلبات والمفاضلة بالدرجات.
أما الكليات العسكرية "الشرطة "والعسكرية "والقوة الجوية " فيكون التقديم إليها بشكل مباشر وكل على حِدَةٍ، شاءت الصدف أنه قدم الى كلية القوة الجوية هو وزميله حسين علي النعمة وبعد أن تم نجاحهم في الفحص الطبي الصعب جداً تم قبولهم في الدورة 27 كلية القوة الجوية العراقية.
في حينها كانت القوة الجوية بعد حرب 1973 تقوم بتوسعة القوة الجوية وقبول أكبر عدد ممكن، لذلك كانت دورتهم أكبر دوره في حينها حيث أوفد جزء من طلاب الدورة الى إنكلترا وإيطاليا وفرنسا وبولندا والاتحاد السوفيتي بالاضافة الى طلاب العراق لرفد القوة الجوية بالدماء الجديدة.
بمناسبة مرور (35) عام على استشهاده
أنني أتذكر الحرب (العراقية – الإيرانية) منذ الضربة الجوية الشاملة (22 أيلول 1980) في (قاعدة الوحدة الجوية- الشعيبة – السرب / 109) بأيامها ولياليها في صيفها الحار ورطوبتها العالية وعواصفها الترابية القادمة من المنطقة الغربية وفي شتاءها البارد وامطارها وغيومها الواطئة الكثيفة.
والواجبات القتالية في عمق الأراضي الإيرانية في الصباح الباكر وفي أوقات الظهيرة والعصر وحتى انتهاء اليوم الى الضياء الأخير.
كانت الواجبات تناط بالطيارين الأبطال بتشكيلات زوجية او بأربع طائرات أو اكثر، حسب أهمية الهدف، كان الصقور الأبطال في السرب /109 ينفذون الواجبات القتالية بكل شجاعة ودقة وإتقان وقد وصلوا لأهداف عديدة ودمروها .
نبذة مختصرة عن عريس شهربان
ولد الشهيد الملازم الأول الطيار جاسم عبد مراد البنا التميمي في محافظة ديالى – قضاء المقدادية (شهربان) سنة (1956) واكمل دراسته (الابتدائية – المتوسطة – إعدادية المقدادية)، التحق الى (كلية القوة الجوية العراقية ) بتاريخ (11تشرين الثاني 1974) بدورتها (27) واكمل الطيران الأساسي على طائرة (الدلفين L-29) والتدريب المتقدم على طائرة (L-39)، تخرج من الكلية بتاريخ (6 كانون الثاني 1977).
استمر في طيرانه على الطائرات المقاتلة هجوم ارضي واجتيازه الدورات في الأسراب التدريبية الى أن التحق الى السرب/109 وعلى طائرة السوخوي -22 واكمل التدريب القتالي في السرب واصبح طيارا فاعلا على هذه الطائرة.
يتصف الشهيد ( شجاع – كفوء – ملتزم – هادئ – خجول – دمث الأخلاق – متزن ) وكل ما نكتب بحقه فهو قليل لأنه أكرم منا جميعا.
نفذ واجبات قتالية في عمق الأراضي الإيرانية منذ الضربة الجوية الأولي الشاملة التي كانت مؤلفة من (12) طائرة كرقم (2) للتشكيل الثاني والمؤلفة هذه التشكيلات (الثلاثة) من (اربع) طائرات في كل تشكيل.
نفذ احد الواجبات القتالية في العمق الإيراني وعند عودته لغرض النزول، كانت هناك غارة جوية على قاعدتنا مما اضطره من التقرب والنزول في مطار (أرطاوي) الثانوي، بعد نزوله فيه وانتهاء الغارة الجوية، عاد من مطار (أرطاوي)، كنا نحن الطيارين قلقين عليه ولحين وصوله ونزوله في القاعدة بسلام.
كما نفذ واجباً معي كرقم (2) بضرب القطعات المتواجدة في مدينة (ديزفول ) بتاريخ (27 أيلول 1980)، كما نفذ معي واجبا كرقم (2) بتدمير (محطة كهرباء مسجد سليمان) بتاريخ (7 تشرين الأول 1980)، كما نفذ معي واجبا كرقم (2) بضرب ميناء (بندر شاهبور) بتاريخ (12 تشرين الأول 1980).
هذه بعض من واجباته التي نفذها معي، التي اعرفها وهناك واجبات اخرى كثيرة ومتعددة مع قادة تشكيلات في السرب/109 .
|
في يوم الاثنين (13 تشرين الأول 1980) استدعي طياري الهجوم الأرضي من القواعد الجوية وعددهم (22) طيارا والمنفذين للواجبات القتالية في العمق الإيراني والمنفذين (9) طلعات جوية واكثر من قبل السيد الرئيس صدام حسين.
كان اللقاء بحضور السيد (اللواء الطيار الركن محمد جسام الجبوري قائد القوة الجوية والدفاع الجوي – العميد الطيار الركن محمد سلمان حمد معاون القائد للعمليات – المقدم فواز السلو مدير استخبارات القوة الجوية). تحدث سيادته حديثا تاريخيا عن العداء الفارسي للعرب والمسلمين، ودعانا وقدم لنا دعوة عشاء وشاركنا فيها،
كرمنا بساعة يدوية ثمينة، وبعد الانتهاء منها رجعنا الى قيادة القوة الجوية وتفرقنا من هناك، وقد رجعت في تمام الساعة (2400) (الثانية عشر) ليلا الى داري في منطقة الكرخ.
في صباح اليوم التالي الثلاثاء المصادف (14 تشرين الأول 1980) سافرت إلى قاعدتي مع الضباط المكرمين وقد وصلنا عصرا مقر السرب /109, وقد سمعت بخبر فقدان (الملازم الأول الطيار جاسم عبد مراد) .
استشهاده عريس شهربان جاسم عبد مراد
كلف تشكيل مؤلف من طائرتين سوخوي -22 محملة بحمولة (20 قنبرة X 100 كغم) برشوتيه (حمالات سداسية) بقيادة (النقيب الطيار م أ ف والملازم الأول الطيار جاسم عبد مراد).
كان الواجب ضرب الأرتال البرية المتقدمة والقريبة من (ميناء بندر شاهبور) والمتجهة على الطريق العام الساحلي باتجاه مدينة (المحمرة).
عند قيام قائد التشكيل بإلقاء الحمولة على الرتل شاهد خلفه طائرة رقم (2) جاسم عبد مراد قد أصيبت من قبل أحدى الطائرات الإيرانية المعادية من نوع (توم كات - F-14) وهي تحترق (كتلة من نار)، فنادى عليه قائد التشكيل إلا أن رقم (2) جاسم لم يرد على نداءه وبقى يشاهد الطائرة لحين اصطدامها بالأرض.
عاد قائد التشكيل باتجاهه بعد أن كانت الطائرات الإيرانية تلاحقه وخلال هذه اللحظات استمر بالدورانات القتالية لحين مغادرة الطائرات المعادية المنطقة، وعلى مسافة (40 – 50) كم عن مدينة (المحمرة)، وأراد أن يلحق بالتشكيل ويسقط أحدى الطائرات إلا أن وقوده قليل حال دون ذلك.
رجع فوق مكان سقوط طائرة رقم (2) جاسم وشاهدها تحترق ولم يشاهد أي اثر لمظلة الطيار، رجع ونزل في القاعدة وبعد وصوله غرفة الحركات.
عرف بوجود غارة جوية بعد إقلاع تشكيله مباشرةً إلا انه لم يبلغ بها من قبل (القاطع) بإلغاء الواجب والرجوع.
لم يوجه (القاطع) طائراتنا المقاتلة (ميك -23) والقريبة من مدينة (القرنة) باتجاه الطائرات المعادية القريبة من مدينة (عبادان) ونجهل سبب ذلك؟
أن الطيارين بصورة عامة وخصوصا طياري المقاتلات وطياري الهجوم الأرضي من الصعـوبة تعويضهم لكون الفترة الزمنية لإعدادهم فترة طويلة وتصرف عليهم مبالغ طائلة حتى يصلوا الى طيارين قادرين على قيادة التشكيلات القتالية.
وأن الطيار المقاتل يتصف بصفات تختلف اختلافا جذريا عن بقية وظائف الدولة المدنية والعسكرية فيجب عليه أن (يأكل – يشرب - ينام ) بانتظام حتى يستطيع أن يؤدي واجبه على أتم صورة.
الملازم الأول الطيار جاسم عبد مراد فهو يتصف بصفات كثيرة ومتعددة واهمها :-
(الشجاعة – الكفاءة – الذكاء – الفن – الحالة الصحية – الحالة النفسية - الجرأة – الضبط – نكران الذات – التحمل – اللياقة البدنية – تحمل المسؤولية – صاحب قرار- سرعة البديهية – الأخلاق - الصبر – الثقة – التفاني – الروح القتالية – هادئ ....الخ).
إن طياري المقاتلات هجوم ارضي والقاصفات البعيدة المدى يتعرضون للخسائر اكثر من بقية طياري الطائرات الأخرى لكون واجباتهم تتطلب الطيران في العمق حيث توجد حماية لهذه الأهداف المدافع عنها من قبل أسلحة الدفاع الجوي (طائرات مقاتلة – صواريخ ارض / جو – م / ط).
أما بقية طياري المقاتلات المتصدية فهم ينفذوا واجباتهم ضمن الحدود الدولية ويهاجموا طائرات الهجوم ألأرضي المعادية ويِسقطونها قبل أن تصل الى إلقاء أسلحتها وهذه هي غاية الدفاع الجوي (الكشف – التميز – التدمير).
في بعض الأحيان هناك واجبات خاصة ومدبرة (للمتصديات) ممكن القيام بها حيث تدخل المقاتلات الى أراضي العدو وتسقط الطائرات المعادية في عقر دارهم.
وكانت لطائراتنا المتصدية (الميك -21 , 23 , 25, الميراج) دور مهم جدا في إسقاط الطائرات (المقاتلة – المقاتلة هجوم ارضي – النقل – السمتيات ) الإيرانية وفي جميع قواطع العمليات .
هؤلاء صقور القوة الجوية المدافعين والمضحين من اجل العراق العظيم نترحم على أرواحهم وندعو من الله أن يتغمدهم برحمته الواسعة ويجمعهم مع الشهداء والصديقين، وان يحفظ الأحياء منهم ويمدهم بالصحة والعافية والعمر المديد .
ملاحظة:-
- إن الواجبات التي نفذها معي كانت خطرة جدا وتؤدي بحياته لولا تنبيهي له خلال الطيران، ليس لكونها بعيدة أو محمية بأسلحة الدفاع الجوي وإنما بسبب طيرانه الوطيء جدا وأقل من ارتفاع قائد التشكيل وقد نبهته مرات عده على أن يتجاوز هذه الحالة وأن يلتزم بضوابط وسلامة الطيران، على الرغْم من تهديدي له بمنعه من الطيران بهذه الارتفاعات المنخفضة للحفاظ علية ولسلامته ووعدني بذلك.
- كان قصير القامة ويضع تحت المقعد اثنين من الكشن (مندر) حتى يستطيع أن يرى من خلال مقصورة الطيار الأرض بشكل طبيعي ولكون طائرة السوخوي -22 القديمة نوع (k) كرسيها ثابت وليس متحرك للأعلى والأسفل كبقية الطائرات التي وصلتنا لاحقا.
- شكري لأخي وزميلي في القتال المقاتل ( العميد الطيار الركن م أ ف) قائد التشكيل الذي زودني بهذه المعلومات عن كيفية استشهاد (الملازم الأول الطيار جاسم عبد مراد) فله كل الحب والتقدير والاحترام لكونه من أبطال السرب /109 ومن المشهود له بالشجاعة والكفاءة ودماثة الأخلاق فأمده الله بالصحة والعافية والعمر المديد .