مذكرات مقهى عباس المندلاوي وقصص الراوي القصخون ملة وفي؟
استكشاف مقهى عباس المندلاوي والحنين الى الماضي والكشف عن أروع ذكريات الراوي القصخون ملة وفي وقصص الاساطير من مذكرات العم فوزي محي الاطرش. حين التقى به كادر مجلتنا (مجلة شهربان الألكترونية) وسرد تلك الذكريات التي كانت تغفو عليها مدينة شهربان.
الحياة في مدينة شهربان بسيطة يخلو سوقها من الوافدين أليها من القرى والارياف التي تحيطها. عند المساء تبدأ استراحة أرباب العمل وفسحة من الاستمتاع بهذه اللحظات هي من حصة أهل المدينة. يبدأ الرجال والشباب يتوافدون الى المقاهي التي يبحثون عنها لجلسات السمر والفكاهة ولقاء الاصدقاء.
يحرص أصحاب المقاهي المتعددة أستقطاب الزبائن بتقديم الخدمات الجيدة وتهيأة كافة مسلتزمات الراحة البسيطة. وهذا الاسلوب يدخل من باب ترغيب الزبون من المكوث لمدة طويلة وأرتياد المقهى بصورة دائمة. وهذا من باب التنافس مع المقاهي المتعددة في المدينة.
لم تكن هنالك منتديات ثقافية واجتماعية تحتوي اهل المدينة لذلك تعد تلك المقاهي بديلاً عن تلك المنتديات. فكانت المقاهي هي مركز الثقافة ومناقشة تلك الامور فهي منتديات ثقافية وأجتماعية. لم تكن هنالك قنوات أعلامية أو صحفية أو مجلة خاصة بالمدينة. كانت الاحاديث تدار بين كل مجموعة مجتمعة في ركن أو محلقين حول طاولة واحدة.
مقهى عباس المندلاوي وسط فضوة السوق.
تتوقف كل الكلمات وتشعر أن هنالك غصة حين تذكر تلك المشاهد التي تجبرنا على البكاء بهمس. كأن تلك اللحظات كانت بالامس القريب بعد أن تبدلت النفوس التي كانت تسكن تلك البقعة اللملؤة بالذكريات. يقولها محدثي السيد فوزي محي الاطرش وهو يصف موقع مقهى عباس المندلاوي.
تقع مقهى المندلاوي بالتحديد وسط السوق القديم في فضوة الخبز هي مركز السوق. تمر بها الطرق كأنها اشعاعات شمس وموقعها على تلك الرابية من خلفها سوق البزازين وجامع شهربان الكبير. أمام تلك المقهى يمر نهر الشاخة وأشجار الصفصاف تضيف لموقعها رومانسية المنظر المؤثر.
مقهى العم عباس المندلاوي تجاور مطعم صغير لقادر أبو الكبة الشهير في شهربان وتجاور أيضاً دكان جلال الاعمى للخضروات. واجهة المقهى عبارة عن جام خانة من الخشب. في فصل الصيف تفتح تلك البوابات ليأتي الهواء البارد وهو يلامس مياة الشاخة وأغصان الصفصاف. يوم لم تكن هنالك أجهزة تبريد أو مبردات أو جهاز تلفاز في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.
كانت مقهى المندلاوي صباحاً تستقطب الزبائن الوافدين من القرى فتكون مقراً لشيوخ القبائل والفلاحين مثلها نفس المقاهي التي تقدم الشاي. ذلك لان أهل المدينة مشغولين في العمل وليس لديهم مجال فالنهار مصدر رزقهم لحين أن تسدل الشمس اشعتها وتختبي ليبدأ مساء جميل.
مساءً تختلف أجواء مقهى عباس المندلاوي. إذ يبدو العم عباس ذكي في التسويق والدعاية للمقهى وله أسلوب في جذب الزبائن والرواد من شخصيات شهربان. كان في المقهى منبر خشبي مزين ليجلس الراوي القصخون ملة وفي. ويبدأ برواية القصص الاسطورية من الادب العربي. هذا ما كان يحصل كل مساء من مساءات شهربان المخملية.
الراوي (القصخون) وما هي هذه المهنة وتاريخها.
تتكون كلمة الراوي أي القصخون من مقطعين الاول يعني القصة والمقطع الثاني تعني راوي القصة. هذه التسمية تطلق على الراوي في العراق أما في الشام ومصر فيطلق عليه الحكواتي. لقد كانت مهنة القصخون هي مسرح بسيط وممثل بارع وقد كان لهم قدم سبق في فن المسرح.
ويعرف هذا الاداء المنفرد للقصخون بالمينو دراما one man show ودور الممثل الواحد هو من يحاول أداء القطعة منفرداً تتخللها بعض التعابير الايمائية للحدث. ويبدو أن المسرح الشعبي قد سبق المسرح الاوربي وكانت أول محاولات في المانيا من قبل الكاتب والممثل المسرحي جوهان كريستيانابراد اندر عام 1775- 1780 ولم يلق نجاحاً يذكر.
ووفقاً للمهتمين بالتراث إذ يورد أن مهنة القصخون قد ظهرت منذ تأسيس بغداد وتعد من التراث الشعبي. وكان هذا الظهور لهذه المهنة بعد انحسار المجالس الادبية التي كانت منتشرة فترة الحكم العباسي. وزادت شهرة مهنة القصخون عندما كان العثمانيون يحكمون بغداد.
كانت المقاهي الكبيرة في بغداد بالخصوص ومدن العراق الاخرى إذ يقوم القصخون بأحياء تلك الليالي وهو يجلس على منبر مرتفع لكي يكون موقعه مرئياً من قبل الجمهور. ويشرع بسرد الروايات المشوقة من أساطير مشوقة تحمل معاني البطولة والحماسية وترى تفاعل القصخون والجمهور.
كانت الروايات التي يسردها القصخون حكايات عن تغريبة بني هلال أو قصة الزير سالم وحكايات العشق لعبلة وعنتره ومجنون ليلى. يبدأها بالصلاه على محمد رسول الله باالرغم من الحاضرين قد سمعوا تلك القصص من قبل لكن أسلوب القصخون يجعلهم كأنهم يسمعونها لأول مرة.
لزيادة المعلومات عن مواصفات القصخون فأنه يلبس ملابس تليق بالمكانة المتميزة بين الجمهور. فهو يجب أن لايكون حاسر الرأس بل يلبس الكوفية أو العقال واليشماغ او العرقجين البغدادي أو عمامة أو غطاء ثقيل. ويرتدي عباءة سوداء وتحتها زبون أو جبة أو فروة لكي يبدو عليه الوقار. وأن يكون بعمر خمسين سنة فما فوق. ويحمل معه كتاب كبير يقرأ منه القصص التي يرويها.
قصخون شهربان ملة وفي ومنبر مقهى عباس المندلاوي.
نتطرق في حديثنا اليوم عن قصخون شهربان هو الراوي ملة وفي وقصص أرتبطت مع مذكرات مقهى عباس المندلاوي. لقد كان في تلك السنوات ملة وفي هو نجم الامسيات ونجم مقهى المندلاوي. الملا وفي ، الراوي المحبوب كان يتردد على المقهى ويأسر جمهوره بحكاياته. لقد كان بارعًا في مهنته. وكان يسحر مستمعيه بأوصافه الحية. والحكايات الحماسية والحزينة والمضحكة وقصص الحياة ودروس من الحكمة.
شجن محدثي فوزي محي الاطرش يستغرق في التأمل وأنا أرى دمعة تسبح في العين يقول فيها: كان الملة وفي رجل قصير وسمين ذو وجه عريض ومدور ملامحه جميلة. يرتدي الزبون والصاية والجاكيت ويعتمر طاقية (حدرية أو عرقجين) على الرأس. نترقب قدومه يحمل كتاب كبير كأنه سجل ويتكأ على عصا من الخيزران. كانت الناس تنظر اليه بهبة ووقار.
يدخل الملة وفي الى المقهى يسلم فيقف الجمهور لرد السلام لهيبته ووقاره وأحترام له. يتوجه المله وفي نحو المنبر الخشبي ويجلس هناك ويضع الكتاب على منضدة أمامه والعصى بجنبه ويبدأ الناس بتحية الجلوس (الله بالخير مله ويرد مله وفي التحية بدوره) يلقي نظرة ثاقبة نحو الجمهور وهم ينظرون إليه ويستغرق ذلك بضع دقائق قبل البداية.
كانت القصص التي يرويها من الاساطير والحكايات التراثية العربية مثل قصة المقداد ومياسة , وقصة عنتر وعبلة وقصة الزير سالم , وتغريبة بني هلال وقصص اخرى. كان يقسم كل قصة على حلقات كل يوم يقرأ جزء منها مع عنصر التشويق.
كيف كان ملة وفي قصخون شهربان يقسم القصة الى حلقات وأسلوب السرد القصصي.
كان أسلوب السرد القصصي للملة وفي جذاب فهو يتفاعل مع المشهد التمثيلي وهو يقرأ من الكتاب. يبدأ في السرد بالحمد والثناء لله سبحانه وتعالى ويثنيها بالصلاة والسلام على خير الانام محمد وصحبه الكرام. من ثم يبدأ بالمقدمة وأستعراض ما حصل في اليوم السابق من أحداث لكي يربطها بحلقة اليوم. ثم يبدأ بالدخول في متن حلقة اليوم.
كان الموقف يتمثل بين الحديث والانتقال بين سلسلة الاحداث التي تدور بشكل درامي متقن ومتسلسل يبدو أن يحفظ القصة ولكنه يستعين بالكتاب خوفاً من النسيان. يتخلل العرض مشاهد تمثيلية من خفض الصوت ورفع الصوت ورفع عصى الخيزران في أي مشهد. كل هذا والجمهور ينصت بأمعان ويتفاعل مع الاحداث.
الهدوء يعم المكان حتى أذا أسقطت أبرة الخياطة تسمع صوتها الكل يترقب القادم من الاحداث. لم يكن يسمح لنا نحن الصغار الدخول الى المقهى لذلك نبقى نشاهد العرض من خارج المقهى. ويستمر العرض من بعد صلاة العشاء في جامع شهربان الكبير أو التراويح في رمضان. ويكون العرض لمدة ساعة وأنارة المقهى بالفوانيس والضوء مسلط على الملة وفي كأنك تجلس في المسرح.
قبل أن تنتهي القصة يقوم الملة وفي بأعطاء رؤوس أقلام حول ما سوف يحدث في الحلقة القادمة وهذا الاسلوب يسمى أسلوب العرض التشويقي. عندها يقول هنا بات الكلام والصلاة والسلام على محمد وصحبه الكرام. ينفض المجلس والحديث بين الجمهور يتناقشون فيما جرى وما سوف يحصل وهم يهمون بالذهاب الى منازلهم.
يلمل الملة وفي أشياءه ويهم بالذهاب الى وكلمات المديح والثناء من الجمهور تنهال عليه. ويذهب الملة وفي الى مقهى أخرى هي مقهى سيد عبد والتي تقع في الرمادية مقابل دربونة العجيلي. موقع مقهى سيد عبد هي بناية مصرف الرافدين في فلكة الرمادية.
خاتمة مقال كهوة عباس المندلاوي والقصخون ملة وفي؟
بهذا الحديث الشيق مع فوزي محي الأطرش يتحدث الي ما الت آلية الأمور وما حل الزمن بمعلم مقهى عباس المندلاوي وصاحبها. إذ تم بيع المقهى في العام 1970 وقد اشتراها حسون علوجي وجوقي بالشراكة. وبعد تغيير مسار الشاخة وأنحسار المجرى القديم الذي يمر من داخل السوق تم تسقيف البناية وبناء دكاكين أمامها فوق ممر نهر الشاخة المندثر.
إفتتح بدلاً عن المقهى الحاج علوكة مع شريكه عبدالرزاق (جوقي) محل كبير للوازم الخياطة. وأستمر فيه حتى لم يعد على العمل فأستلمه أبنائه وانتهى به الامر في تسعينيات القرن الماضي. أما عباس المندلاوي فقد توفي بعد أن ترك المقهى بفترة قصيرة بعد ان كانت تعمل منذ الاربعينيات القرن الماضي.
أما الملة وفي فقد بقى عازبا وكان يسكن في غرفة ببستان رزاق حسيب وحيدا في أغا جان الي أن توفي في منتصف السبعينات من القرن الماضي. فهو كان وافدا للمدينة ولكن كسب محبة الجميع وهو ذو خلق عالي. كانت قصص الملا وفي مصدر إلهام لأولئك الذين تجمعوا. ذكّرتهم كلماته بجمال الحياة وشجاعة أسلافهم وأهمية السعي من أجل الصالح العام. كانت كلماته بمثابة منارة للنور في الظلام ، تلهم الناس لمتابعة أحلامهم وعدم الاستسلام أبدًا.
لقد كانوا بمثابة تذكير بأنه بغض النظر عن مدى صعوبة الرحلة ، فكل شيء ممكن إذا وضعنا عقولنا وقلوبنا عليها. تذكر مذكرات مقهى عباس المندلاوي وقصص الملة وفي بأننا جميعًا لدينا القدرة على خلق مستقبل أفضل إذا بقينا صادقين مع أحلامنا ولم نتوقف عن الإيمان بأنفسنا. وبذلك اسدل الستار عن ذلك الممثل البارع الذي تعلم الأداء بالفطرة فهو مونودراما شهربان رحم الله من فارقنا في هذه الايام المباركة.
شكرا لصديقي فوزي محي الأطرش على هذه المعلومات الثرية من تاريخ شهربان.
تمنياتي لكم بالاستمتاع والى حكايات قادمة ... مع تحيات مالك المهداوي.