شدة الورد الشهربانية: ذكريات من الماضي الجميل.
بقلم: عامر كامل الخياط.
في خضم التغيرات السريعة والتحولات الجذرية التي شهدتها مدينتنا على مدى العقود الأخيرة، تبرز في ذاكرتي صورٌ من الماضي الجميل تفيض بعفويتها وبساطتها. تلك الصور تعيدنا إلى زمنٍ كانت فيه الحياة أكثر نقاءً، والنظام ينساب برقة في تفاصيلها اليومية. لم تكن مدينتنا قد خضعت بعد للتخطيط العشوائي والتحولات العمرانية التي شوهت وجهها الحضري. الدب في بساتين شهربان قصة حقيقية للكاتب.
شدة الورد الشهربانية: ذكريات من الماضي الجميل. |
في هذا المقال، أسلط الضوء على تلك الذكريات العزيزة، التي تحكي قصة مدينة كانت تزدهر ببساتينها ومجتمعها المتآلف، قبل أن تجرفها موجة التغيير العارمة. هذه السطور ليست مجرد توثيق للماضي، بل هي دعوة للتأمل في ما فقدناه، وما يمكن أن نستعيده من جمال تلك الأيام الخوالي.
عفوية وجمال المدينة قبل التغيير.
" شدة الورد الشهربانية " عندما تعود بك الذاكرة إلى ستة عقود من الزمن وأكثر فلابد أن تكون هناك مناظر جميلة قد علقت فيها وتميزت بالبساطة والعفوية وشيء من النظام , يفتقدها المرء في مثل هذه الأيام التي أمتازت بهذا التقدم الحضاري المشوه وخصوصا ً في مدينتنا التي تعرضت لتغييرات عمرانية كبيرة بدون أدنى قدر من التخطيط السليم , حالها في ذلك حال المدن العراقية الأخرى وبخاصة العاصمة بغداد بعد غزو الجراد لها بعد 9 نيسان 2003.
في تلك الأيام الخوالي، كانت المدينة تزخر ببيوتها الطينية المتراصة وحدائقها الخضراء التي كانت تملأ الأجواء بعبير الزهور وأصوات الطيور. الشوارع الضيقة كانت تعج بالحياة والبساطة، والأهالي كانوا يتشاركون أفراحهم وأحزانهم كعائلة واحدة. كان الناس يتنقلون بين بيوتهم سيراً على الأقدام أو باستخدام الدراجات الهوائية، مما أضفى على المدينة طابعاً من الهدوء والسكينة.
الأسواق التقليدية كانت مركز الحياة الاجتماعية والاقتصادية، حيث يتجمع الناس للتبضع وتبادل الأحاديث والأخبار. كانت العلاقات الإنسانية تتسم بالتآلف والمودة، بعيداً عن صخب الحياة الحديثة وتعقيداتها. هذا الجو العفوي والبسيط هو ما جعل المدينة مكاناً محبباً يعيش في ذاكرة كل من عاصر تلك الفترة الذهبية.
بداية التغييرات العمرانية.
أول الغيث في مدينتي أبتدأ مع الإنقلاب الأسود عام 1963 و الذي شرع لقانون " كلمن أيدوا إلوا " ثم تلتها حقبة أمتدت بينه وبين الحرب العقيمة بين العراق و إيران و ما بعد الغزو الأمريكي للوطن , حيث تفشت ظاهرة البناء العشوائي وظاهرة تغيير جنس الأراضي الزراعية لغرض تجزئتها و بيعها كقطع أراضي سكنية , فبينما كمثال كانت هناك منطقة خضراء كبيرة متمثلة بالبساتين تفصل دور الضباط عن باقي المدينة فتح الشارع الواصل بينهما و الذي يختصر المسافة بينهما إلى الربع تقريبا ً.
ثم أنتشرت على جانبيه عشرات القطع السكنية التي تم أستحداثها بقطع النخيل و الأشجار المثمرة لتظهر محلة جديدة وسط المسافة التي أحتلها الشارع الجديد سميت بمحلة " الحرية " في العهد الجمهوري الأول . تلتها في العهد الثالث " عبد الرحمن عارف " ما سمي بمشروع " تعديل مجرى النهر " الذي أختفت بموجبه معظم دور محلة " الجيروان " لوقوعها ضمن المجرى الجديد .
وهكذا إلى أن حلت مأساة الحصار الإقتصادي التي دفعت ببعض حديثي النعمة إلى شراء معظم البيوت القريبة من السوق و شراء العديد من الدكاكين العائدة للسوق مقابل عوائد نقدية ضخمة للبائعين و هدمها وبنائها كقيصيريات بناء على خرائط معدة على مزاجه و لحسابه الخاص.
هذه التغيرات العمرانية أضفت على وجه المدينة نوع من القباحة ما كان ليسقط ظله عليها لو كانت هناك سلطة مدنية فعلية تخطط و تنظم عمليات الهدم و البناء و لا تمتثل لمبدأ المحسوبية و المنسوبية السيء الصيت . وهي إن كان لها أثر معين في عملية التقدم المقصودة بحديثنا فما هو إلا النسف الكامل لتلك الصورة الجميلة التي كانت عليها المدينة على بساطتها.
تنوع المجتمع وتآلفه في المدينة القديمة.
ففي تلك الأيام الخوالي من أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي كانت المدينة تحوي بين جنبات بيوتها الطينية في معظمها خليطا متجانسا ً من البشر تحسهم فردا ً واحدا ً وهم يعدون بالإلوف , فكانت ولاتزال تمثل خليطا ً بشريا من العرب والكرد والتركمان كمسلمين بشقيهم السني والشيعي وعلى إختلاف مذاهبهم , ويهوداً بالعشرات هجرت معظمهم حكومة الخيانة في العهد الملكي المباد إلى إسرائيل في العامين 1950 و 1951 بموجب قانون جائر أسقط عنهم جنسيتهم العراقية إنصياعا ً لأوامر الصهيونية والماسونية العالمية .
وطائفة كبيرة من الصابئة المندائيين أمتهنت صياغة الذهب والعمل في بيعه وشرائه حتى كان لهم فرع خاص في السوق الكبير مدخله في باحة السوق وتمتد محلاته إلى القرب من محل المرحوم " عبد الواحد " المختار والمرحوم " مندو الحداد " من جهة ومن الجهة الأخرى حتى محل والدي ومحل العم " محمد " للخياطة حيث يستمر الفرع ليصل محلة الحداحدة مجتازا ً الحمام العام العائد للمرحوم " توفيق بدي " . وقد أشتهر من بينهم العم المرحوم " علوان – والد كريم و نعيم " وأشتهر من بين صفوفهم الأستاذ الرائع المرحوم " لازم - والد عادل " والعم " هامل – والد جهيد وأخوته " والعم الأريحي المرحوم " فليفل " .
دور الأخوة المسيحين في المدينة.
أما الأخوة المسيحين فقد قطن دور الضباط قسم منهم منتسبي الجيش العراقي و قطعاته المتواجدة في معسكر " منصورية الجبل " لفترة طويلة أمتدت من بداية الخمسينات و حتى أواسط الستينات ومن علق منهم بذاكرتي النقيب " يونادم " بشخصيته الرائعة والد " سركون و آشور " الذين أشتهرا ببراعتهما في لعبة كرة القدم و نقيب آخر لا أتذكر أسمه بالضبط و سيكون النقيب " يونادم " موضوع حديث اليوم .
أما في المدينة فقد سكن المرحوم العم " يوسف صادق عتيشا " والد " نبيل و صادق و عصام " متخذا مهنة بيع المشروبات الكحولية وقد تحدثنا عنه في موضوع سابق ثم وفد السيد " نجيب " صاحب مطعم " على كيفك " ثم متعهد نادي " الموظفين " في المقدادية .
وفي فترة الستينات أيضا ً سكنها الدكتور المرحوم " منير عبو اليونان " الذي كانت عيادته و بيته مؤجرة من المرحوم الحاج " عزيز ولي عرب - صاحب محل بيع الأقمشة – والد المرحوم عرب " وكانت واجهة العيادة على الشارع العام حيث أصبحت اليوم مكانها محلات بيع الفواكه و الخضار .
أما النقيب " يونادم " صاحب الشخصية اللطيفة و الخلق الرفيع و الأدب الجم فقد كان ضخم الجثة أبيض البشرة و كما بدا في ذلك الزمان أنه كان آمرا ً لسرية التدريب الأساسي في المعسكر أو شيئا ً من هذا القبيل , كان هندامه العسكري من النظافة و الشياكة كأنه وزير دفاع دولة.
مراسيم سوق المواليد للخدمة العسكرية.
المناسبة التي علقت في ذهني كمراسيم جميلة ما عادت تحدث منذ إندلاع الحرب العراقية الإيرانية أو من السنين التي تلت إنقلاب شباط الأسود 1963 , مراسيم سوق المواليد الجديدة لأداء الخدمة الإلزامية في الجيش العراقي و التي كان النقيب " يونادم " بطلها الدائم .
منذ الصباح الباكر كنت تجده قد ذهب إلى المعسكر ليعود من هناك صحبة الجوق الموسيقي العسكري و صحبة فصيل من سرية التدريب الأساس بكامل قيافتهم العسكرية و أسلحتهم النظيفة المزيتة ويكون عند دائرة تجنيد البلدة و بعد أن تختتم الدائرة إجرائاتها و تؤشر دفاتر الخدمة بكتاب السوق للخدمة يكون ترتيب الموكب كالآتي :
- في المقدمة الجوق الموسيقي ثم بفاصلة مترين أو ثلاثة النقيب " يونادم " في وسط الشارع الرئيس ثم يتبعه الفصيل العسكري ( 50 ) عسكريا ً تقريبا ًبصفوف منتظمة وبنفس الفاصلة ينتظم الشباب المساقين للخدمة على شكل كراديس تفصل بين أحداها والآخر المسافة ذاتها , و على جانبي الموكب ينتشر ثلة من الإنضباط العسكري لمنع فرار أي أحد من المساقين أثناء مسير الموكب الذي يخترق المدينة من غربها إلى شرقها .
- أجمل ما في الموكب , الموسيقى تصدح بالمارشات العسكرية , والنقيب " يونادم " خلف الجوق رأسه مرتفعا ً عاليا ً و كرشه متقدم إلى الأمام , و النجمات الذهبية تتلألأ على كتفيه , وبنطرونه الشورت الخاكي .. ولفافة الساق الممتدة حتى الركبة , وهو يطلق بصوته الجهوري إعازاته التي يرمي من ورائها إنتظام نقلة الأرجل والأيادي للرتل . " إيس .... أم ... إيس ... أم ".
- وفي الفضاء الذي أصبح اليوم الساحة المقابلة لحسينية المقدادية كانت الشاحنات العسكرية تنتظر الموكب لتقلهم من هناك إلى معسكر " منصورية الجبل " مهد إنطلاق شرارة ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة .
فاتني أن اذكر أن هذه المراسم كانت تتم في السادس من كانون الثاني من كل عام تزامنا ً مع مرور ذكرى تأسيس الجيش العراقي الباسل في العام 1921 .