هكذا قال انيس بقايا حياة قاهر الجينكو في زمن الصعاب انيسيات يومية.
يقدم لنا أنيس تجربة عميقة ومؤثرة عن بقايا الحياة في ظل ظروف قاسية ومليئة بالتحديات. يروي أنيس ببراعة تفاصيل يوميات رجل قهرته الحياة لكنه لم يُهزم، رجل يعيش بين جدران من الجينكو، يتصدى لصعوبات الحياة بكل قوة وصبر. من خلال سرد يفيض بالمشاعر والتأملات، ينقل لنا أنيس صورة حية عن معاناة هذا الرجل وصموده في وجه قسوة الزمن والظروف، لتبقى كلماته شاهداً على قدرة الإنسان على التحمل والمقاومة. "أنيسيات يومية" هي رحلة في عالم يمزج بين الألم والأمل، حيث يجد القارئ فيها انعكاساً للإنسانية في أقسى صورها.
هكذا قال انيس بقايا حياة قاهر الجينكو في زمن الصعاب انيسيات يومية. |
( قاهر الچينكو ) ... تقول الكاتبة الأميركية إيرما بومبيك :
-- لم يكن أبي يفعلُ شيئاً ، فلماذا افتقدته الى هذا الحدّ ؟ في كلّ بيتٍ مصباح ثلاجة ، ولكن لاأحد يعرف تماماً : ماذا يفعل حين يُغلق بابُها ؟ يغادر أبي البيتَ كلّ صباح ، ويبدو سعيداً برؤيتنا ثانيةً حين يعود مساءً ، يفتح سدادة المخللات على المائدة بعدما يعجز الجميع عنها ، هو الوحيد لايخشى النزول الى السرداب ، لاأحدّ يتقدم ليقبّله أو يهتم به بما يحصل له حين يجرح وجهه عندما يحلق ذقنه ، وإذا مرض أحدنا يهرع الى الصيدلية يحضر الدواء ، أبي مشغولٌ دائماً ، يقطع أغصان الورد في الممر أمام المنزل ، لانشعر به يعاني وخزات الأشواك ونحن نسير الى الباب الأمامي ، وهو الذي يزيّت عجلات مزلاجي كي تجري على نحوٍ أسرع ، ولمّا حصلتُ على دراجتي الهوائية ، كان يركض بجانبي قطع ألف كيلومترٍ على الأقل قبل أن أتعلّم القيادة وأسيطر عليها
أبي هو الذي يوقّع بيانات علاماتي المدرسية ، التقط لي صوراً لاتُحصى ولم يظهر في واحدةٍ منها ، كان يشدّ لأميّ حبالَ الغسيل المرتخية ، كنت أخاف آباءَ كلّ الأولاد ، إلاّ أبي لاأخافُ منه ، أعددت له الشاي ذات مرة ، ماءٌ فيه سكر فقط ، مع ذلك جلس في المقعد الصغير أخبرني : أنه لذيذٌ وبدا مرتاحاً جداً ، عندما ألهو بلعبة البيت ، أعطي الدمية الأم مهماتٍ كثيرة ، ولم أعرف ماذا أوكل للدمية الأب ، لذا كنت أجعله يقول : أنا ذاهبٌ للعمل الآن ، ثم أقذف به تحت السرير ، ذات صباح ، في التاسعة من عمري ، لم ينهض أبي للعمل ، ذهب الى المستشفى ، وافته المنية في اليوم التالي ، ذهبتّ الى حجرتي تلمستُ تحت السرير بحثاً عن الدمية الأب ، وحين وجدته ، نفضتّ عنه الغبار ، ووضعته على الفراش ، لم أتصور أن غيابه سيؤلمني جداً ، وحتى الآن أفتقده
... أبو جاسم صديقي منذ أيام الطاغية يكبرني خمسة عشر عاماً تسلطت عليه زوجة إبنه ، نفته الى حجرةٍ من الچينكو فوق سطح الطابق الثاني لاتقيه جحيماً ولازمهريراً ، فيها مصباحٌ واحد فقط ، ونقطة كهرباء عاوية يركّب عليها مروحةً أرضية تطلق صريراً لاتتحمله حتى الأذن الصماء ، محظورٌ عليه استعمال المبردة تذب ماي واتخرب السگف كما تدّعي تلك السليطة البغيضة ، ومسموحٌ له جليكاناً واحداً من حنفية التانكي ماءً ساخناً حتى في موجات القرّ ، وفي الظهاري من تموز وآب ينگع ملابسه الداخلية بالماء يمتد قبالة البنكة المستهلكة إذ يستمتع بتبريد الربّ كما يسميها ، وعندما تنطفيء الكهرباء لايحق له تشغيل المرحة لإن الأمبيرات ماتتحمل ، بينما تنعم الست بالهواء البارد شالخة زرها ، هي وبغلها وأولادها وبناتها ، وحين تغرب الشمس في عينٍ حمئة ، يتأبط فراشه المتهريء ينام على سطح الدار تلهبه سوافي القيظ بلا رحمة ، وإذا طرّ الفجر ، إجتمع الذباب على وجهه عبثت به أخاديد الزمن الأعجف ، يدخل مسرعاً معتقله ، يرتدي ملابسه ليست أحسن حالاً من دوشگه ومخدته ، ويهرب قاصداً عمله مراسلاً بين تجار الشورجة ورجال الأعمال ، يكرمونه بما تجود أناملهم تفاليساً لاتزيد عن ألف دينار في كلّ مشوار ينفق منها على ريوگه وغدائه وتنقله ، وماتبقى ثمناً لعشائه وأدوية أمراضه المزمنة العنيدة
... في المساء يشتري له من المطعم لفةً وعصيراً يتقوت بها ليلاً بانتظار فجرٍ جديد، في الشتاء يتحول مسكنه براداً ثلجياً يستعين عليه بأسماله الرثة السميكة مع قمصلةٍ عسكرية ورثها وساماً من بطولات القادسية ، بينما يخفي رأسه مثل تيلة القطن قبل قطافها في چفيةٍ داكنةٍ متسخة ليست أحسن حالاً من أترابها ، وإذا اشتدّ الصقيع لاحيلةَ له غير أن يدفنَ جحفته تحت البطانيات الثلاث فوقهن لحاف أدرك نهايته قبيل الإحتلال ، بعدها يلصق ركبتيه بصدره المنخور علّه ينعم بعضاً من الدفء المزيف ، وفي الليالي المطيرةِ عارضاً هطلاً ، لايزور الكرى عينيه حتى انبلاج الصباح من
المطر يدمدم قاصفاً جللاً ، فهو في صداقة مع الچينكو عازفاً صللاً
... وإن أراد يقضي حاجته عليه لزاماً يهبط من السلم الحديدي الوعر الى التواليت الخارجية دون المرور ببطن المنزل خشية أن تشتم الهانم رائحته الخايسة ، وشايبٌ بهذا العمر كم مرة يحتاج دورة المياه صعوداً ونزولاً كلّ يوم، مع هذا وابنه الضيغم وأحفاده لايقتربون منه سلاماً أو كلاماً ،حتى في عيد الله محد ايگله عيدك امبارك ، بينما يعج بيتها بأشكال المهنئين ومن كلّ قطر أغنية ، وإن داهمه المرض واستبدّ به الألم يلازم غرفته ، يطبب نفسه بما يخزنه من حبوبٍ وشراب حتى يستعيد عافيته ويستأنف عمله ، هذا رجلٌ ورغم المحنة قهر الچينكو ومن حوله ، فكيف لو كانت عجوزاً كفيفةً أو معاقةً تعاني أمراض الشيخوخة ؟ تساؤلٌ مرعب
... زارني أبو جاسم ذات مساءٍ في دكاني ينشد بيضاً ، فاخترت له من أجود ماعندي ، لكنه تردد : وين راح اسلگهن ؟ هاي المره مانعه عليّه كل شي ، لاهيتر ولاقوري ، إلتمست جارتنا الطيبة أن تسلگهن وتنعل والديهن ، تمادت كرماً وسخاءً أن أرفقتهن صموناً وزلاطةً وكأساً من الشاي العراقي المعتق كالسلافة ، وضعت أنا الجميع في حافظةٍ أنيقة رحمةً مهداة ، رفضت استلام ثمنهن فأبى : آني ماآخذ صدقة ! عيب عليك أبو جاسم ، إنته صديقي وهذا واجب الضيافة فامتثل ، رجوته عند المغادرة أن يعودني كلما سنحت له الفرصة كي أستمتع بعذابي معه لأجل هذا خُلقنا
... إنقطع عني أسابيعاً ، ساورتني عليه الظنون مكروهاً ، لاأجرؤ على مقابلته في قصره الباذخ تلافياً لفضاضة چنته وأتباعها ، تحاملت على نفسي ومتاعب جسدي أفتش عنه في أسواق الشورجة ودهاليزها ، عثرت عليه بعد أن اتگطعت رجليّه ، يسكن حجرةً تحت سلّم العمارة عطف بها عليه مالكها طلباً للثواب في الآخرة ، استقبلني أبو جاسم يعانقني ودموعه تنهمر من مقلتيه كرشق المطر ، فاهتديت أرفع معنوياته : أنك في هذا المكان تحيا بكرامتك ، أفحمني : أنا لاأحس بآدميتي إلاّ عندما أكون معك ، وماعداك ليسوا إلاّ وحوشاً كاسرة ، بينك وبينهم سنوات ضوئية