من الذي دمر الدولة العميقة في العراق؟
الدولة العميقة، مفهوم مثير للجدل، غالبًا ما يُنظر إليه كعنصر سلبي بسبب قلة الوعي بدورها الحيوي في الأنظمة الديمقراطية. في الدول المستقرة، يُشكل السياسيون الفائزون الحكومة التنفيذية، لكن في الدول الهشة مثل العراق بعد عام 2003، يظهر العجز الإداري والسياسي بشكل واضح، مما يُبرز الحاجة إلى دور الدولة العميقة.
ما هي الدولة العميقة؟
الدولة العميقة ليست كيانًا خفيًا أو قوة خارجة عن القانون، بل هي مجموعة من الكوادر الإدارية والمهنية التي تُشكّل عماد الدولة. هذه الكوادر تشمل موظفي وزارات التخطيط والاقتصاد والمالية، البنك المركزي، القضاء، الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، ورئاسة أركان الجيش.
من الذي دمر الدولة العميقة في العراق؟ |
هذه المنظومة تعمل وفق تدرج وظيفي صارم، ولا يُمكن للمسؤولين المنتخبين تجاوز هذا التدرج أو تمديد فترات المسؤوليات إلا في حدود معينة.
في الدول الديمقراطية المستقرة مثل الولايات المتحدة وفرنسا، تغيُّر الحزب الحاكم لا يؤثر على بنية الدولة. أما في العراق، فقد أسست الدولة العميقة منذ عهد الملك فيصل الأول ونوري السعيد على قواعد صارمة تضمن استمرارية الأداء الإداري والمهني، لكن هذا الهيكل بدأ بالتآكل بعد عام 2003.
كيف تأسست الدولة العميقة في العراق؟
الدولة العراقية الحديثة وُضعت أسسها خلال فترة الملك فيصل الأول، حيث أُنشئت بنية تحتية قوية قائمة على قوانين إدارية صارمة. كان الموظف يبدأ مسيرته ككاتب ويتدرج في المناصب حتى يصل إلى درجة قائم مقام أو متصرف، بينما كانت الترقيات في الجيش نادرة وتخضع لمعايير صارمة.
في تلك الحقبة، كانت الدولة العراقية نموذجًا يُحتذى به في التنظيم والإدارة، حيث لم تكن المناصب تُمنح إلا للأكفاء. هذا الهيكل الإداري ساهم في تحقيق استقرار كبير على مدى عقود.
ما الذي حدث بعد عام 2003؟
التغيير الذي شهده العراق عام 2003 لم يقتصر على إسقاط نظام صدام حسين أو حزب البعث، بل كان الهدف الرئيسي تدمير هيكل الدولة العميقة. بمجرد تفكيك البنية التحتية الإدارية، بدأ التاريخ العراقي العريق في الانهيار، وظهرت الفوضى كبديل للنظام الإداري السابق.
دور مجالس المحافظات في التدمير.
بعد عام 2003، أوكلت مجالس المحافظات بمهمة تقويض الدولة العميقة. المناصب الإدارية أصبحت تُباع وتُشترى لأشخاص غير مؤهلين، حيث تم توزيع الدرجات الوظيفية بناءً على المحاصصة السياسية بدلًا من الكفاءة. هذا النهج أدى إلى تدمير البنية الإدارية للمحافظات.
محافظة بابل على سبيل المثال، التي كانت رمزًا للحضارة والتاريخ، أصبحت نموذجًا للكارثة. عدم الكفاءة والفساد الإداري جعل المحافظة تعاني من مشاكل بيئية وبنية تحتية متدهورة، وهو ما يتجلى في انتشار أكوام النفايات في أسواقها.
هل يمكن إصلاح الوضع؟
إصلاح الدولة العراقية يتطلب إعادة بناء الهيكل الإداري على أسس الكفاءة والنزاهة. لا بد من إعادة الاعتبار لـالدولة العميقة كعنصر محوري في استقرار البلاد. التركيز على تأهيل الكوادر المهنية وإبعاد المناصب الإدارية عن الصراعات السياسية يُمكن أن يُعيد للعراق مكانته.
خاتمة: ما حدث لـالدولة العميقة في العراق هو عملية ممنهجة لتدمير أحد أعمدة الاستقرار الوطني. إعادة بناء هذا الهيكل ليست مهمة سهلة، لكنها ضرورية للحفاظ على هوية العراق وحضارته العريقة. التغيير يبدأ من الاعتراف بأهمية الكفاءات المهنية وإبعاد السياسة عن شؤون الإدارة.