القادم الى شهربان
بقلم عامر كامل
يوسف صادق عتيشا على ما علق في ذاكرتي من تلك الأيام الجميلة التي مضى عليها أكثر من نصف قرن، قصة القادم الى مدينة شهربان وأستوطن فيها.
غتيشا هو أسم عشيرة قطنت قضاء تلكيف من توابع محافظة الموصل، الذي أشتهر أهلوه بصناعة النبيذ وتقطير العرق.
القادم الى شهربان العم يوسف عتيشا
ومن تلك العشيرة وذاك القضاء تحدر العم "يوسف صادق" المولود فيها سنة 1908 والذي قدم إلى شهربان منذ زمن لم أعيه ولم أدركه أنا مما يعني أنه كان ما قبل خمسينات القرن الماضي.
لكن ما أدركته ووعيت عليه أن العم كان له محل وسط سوق المدينة يعتاش منه وعائلته على بيع المشروبات الروحية والذي أنتقل في شهربان إلى رحمة الله في 31 آب 1984 دون علمي بذلك، لكوني كنت أيامها في خضم جحيم الحرب العراقية الإيرانية وفي قاطع العمارة وأسكن بعيدا عن شهربان.
ما أدركته ووعيت عليه أنه سكن وعائلته الكريمة لفترة طويلة بيتاً قريباً جداً من بيتنا، كانت أول معرفتي بأهمية وجوده في البلدة إنها لم تكن مقتصرة على بيع المشروبات الروحية.
فذات ليلة صيفية حارة، كنا أيامها كمعظم العوائل في قلب المدينة ننام فوق السطوح وسقوف بيوتنا الطينية التي كانت أمهاتنا ترشها بالماء وقت الغروب لأجل إنبعاث الحرارة منها وتحولها إلى سطح بارد نسبياً وقت النوم وتسهم عملية الرش هذه في تلطيف الجو.
في تلك الليلة وأنا لي من العمر قرابة العشرة سنين، حدث أن كان أحد أسناني قد أصابه التسوس مسبقاً لكنه في تلك الليلة لا أدري مالذي حدث له.
إذ بدأت آلامه تجعلني أقفز من مكان إلى آخر وما أن يهدأ قليلاً وأحاول لحظتها الإيواء لقراشي حتى تبدأ نوبة أخرى من الألم أشد منها للحد الذي ابتدأت معه بالبكاء بصوت عال، الأمر الذي جلب إنتباه والدي ساعتها وسألني عن سبب بكائي فأجبته بما حدث.
هدأني وطلب مني السكوت وإنه سوف يتصرف، وأنا بذاك العمر بدأت افكر، كيف سيتصرف ومن اين سيجلب لي الدواء؟
موقف جارنا يوسف عتيشا
الوقت ليلاً ولم تكن هناك في المدينة صيدلية أصلاً، عدا تلك الموجودة في المستشفى البعيدة عن منزلنا، لا بل على ما أذكر ايامها كان حتى الشارع الرئيسي الذي يقسم البلدة إلى نصفين لم يكن معبدا ً أيامها .. فقط معدل بمادة السبيس.
فقال لي تعال معي: نزلنا سوية فإذا بأبي يأخذ إستكانة شاي فارغة من المطبخ ويفتح باب المنزل ويأخذ بيدي بيده ويمضي عبر الشارع .
توقفنا عند باب منزل على الجهة المقابلة، دق على الباب فتحه رجل متوسط الطول معتدل البنية، سلم عليه أبي قائلاً :
- مساء الخير ابو نبيل .. آسف على إزعاجك بمثل هذا الوقت .. ولكن ولدي هذا يتلوى من الألم بسبب من تسوس سنه وأنا بحاجة لقليل من العرق لتهدئة ألمه لحين الصباح حتى آخذه إلى المستشفى.
- لا العفو يمعود ماكو أي إزعاج وتدلل أنت وهو .
أخذ الإستكانة من أبي وعاد بعد قليل وهي مملوءة إلى النصف بسائل أبيض كالماء ولكنه ذا رائحة حادة سرعان ما أقتحمت أنفي الصغير الذي نقل تأثيرها العطري إلى الدماغ الذي ميزها بأنها ليست بماء.
شكره أبي وعدنا إلى البيت وأخذ قطعة من القطن ولفها على عود الثقاب الذي كان يستخدمه لأشعال سكائره وغمس القطنة في الإستكان وطلب مني فتح فمي حيث أدخلها في الثقب الموجود في سني المنخور بالتسوس.
ثم غمسها ثانية وطلب مني إعادة الكرة، سرعان ما شعرت بذهاب الم وسادني شعور بالإرتياح التام الذي أخلدني للنوم بعد ذاك بدقائق.
كانت تلك معرفتي الأولى بالعم ومعرفة مهنته، مضت السنين وكبرنا ودخلت سن المراهقة والشباب وحصل ذات ليلة خاتني فيها الذاكرة الآن لتذكر متى وكيف ومع مَنْ مِنَ الأصدقاء ...
المهم أني عدت إلى البيت مخموراً وثملاً وأكتشف الوالد ذلك وعصب علي وطردني من البيت حيث ذهبت للمبيت في بيت عمتي ليومين عدت بعدها إلى البيت.
زبائن العم صادق عتيشا
مضت الأيام وكبرت وجاءت سنين المراهقة والشباب حيث صرت زبوناً لدى العم يوسف عتيشا أشتري منه مرة في الأسبوع أو قد تصل مرتين ...
لقد جمعت تلك الأيام بيننا كشبيبة من أبناء المدينة على إختلاف مذاهبهم ومشاربهم السياسية والفكرية تحت لواء مديرمدرسة الأجيال المرحوم "مجيد جبيرة".
تم إختيار مكان لتمضية أماسينا الجميلة المزدهرة بالطرب الأصيل في سماع السيدة "أم كلثوم" يتمثل بهيكل بيت غير مكتمل البناء يعود لأخ أحد أفراد الشلة يقع على أطراف محلة الحي العصري المنعزلة.
كان المكان من الروعة في كونه منعزلا ً لا يسبب أي إزعاج للجيران لعدم وجودهم أصلاً.
كان "مجيد ..." ومنذ فترة العصر وقبل الغروب يلف علينا واحداً واحداً في مقهاه سائلاً عن حاجته الفعلية من المشروب مثبتاً ذلك في ورقة ويستلم النقود التي سيشتري بها.
شلتنا تلك كانت قد تجاوزت الإثنا عشر فرداً، رحل منهم من رحل عن دنيانا وبقي من بقي موزعاً بين شتات الأرض.
كان العم "يوسف صادق عتيشا" يمازح" مجيد .. " قائلا ً:
- هل فتحت محلا ً لتنافسني في مهنتي؟
- لا والله بس هاي طلبات الشباب، وهمه تدري بعدهم زغار ويستحون يجون يمك بالمحل.
سبب مزاح العم معه كون الطلبية كانت كبيرة نسبياً، وهي تتكرر بشكل شبه يومي.
إذ لم يكن على أيامها متنفس آخر أمامنا غير ممارسة لعبة كرة القدم تقريباً مرتين في الأسبوع عصراً.
والليل يمضي في سماع كوكب الشرق والإنتقال إلى عوالم أخرى عبر إحتساء ما هو مقدر لطاقة كل منا من العرق والبيرة.
قيض لي أن أتعرف على العم "يوسف عتيشا – ابو نبيل" أكثر فأكثر عندما تفرغ إبن زوج عمتي للقراءة فترة شهرين قبل أداء إمتحانات الإعدادية وكان يعمل في "خان هوبي" بصفة مسجل مبيعات.
إذ لم تكن هناك علوة للخضار والفواكه على أيامها وكان المزارعين يجلبون حاصلاتهم على ظهور الحمير والخيل ليقوم المرحوم " هوبي" بوظيفة الدلالة في البيع بالمزاد لتلك الحاصلات.
كانت الوظيفة أن اسجل في سجل خاص أسم البائع ونوع الحاصل وأسم المشتري وعدد القطع المباعة وثمنها، بعد أن رشحت لأكون بديله خلال هذه الفترة وفترة الإمتحانات.
والسبب في مسك ذلك السجل حتى يتمكن المزارع من تتبع صناديقة والسلال التي جلب بها خضاره وفاكهته وإستلام ثمن بضاعته.
ما دار وكان يدور في الخان وماهو سبب تواجد العم "يوسف" هناك سآتي على تفصيله في حلقة ذكرياتي عن الخان وعالمه السحري والتي ستلي هذه الحلقة بإذن الله.
رحم الله العم " يوسف عتيشا أبو نبيل" صاحب الروح المرحة والنبيل بأخلاقه الرفيعة، وحفظ الله أولاده " نبيل " و " صادق " اللذين هاجرا إلى الولايات المتحدة قبل خمسة وعشرين عاما ً " عصام " في هولندا وأختهم الكبيرة في " دهوك " فقد كانوا جميعا ً ممن توزعت فيهم روحه و أخلاقه.
لقد كانت من أسعد اللحظات تلك التي تلقيت فيها إتصالا ً فيديويا ً قبل ايام من الأخ " صادق " من أمريكا الذي كان صغيرا ً عندما تركت المدينة سنة 1969 لأتفاجأ به وقد غزا الشيب رأسه و قد أصبح جدا ً حيث تذاكرنا حول تلك الأيام التي لن تعود ابدا ً إلى سابق إلقها و عطرها بعد هذا التطور و القفزات الهائلة تكنولوجيا ً وعمرانيا ً.
أربيل / 1 آب / 2017
الذهاب الى مقال اخر من هنا