من فلكة الرمادية الى محطة قطار شهربان ألاف من الذكريات
تفاصيل سوق شهربان الصغيرة التي لا تغادر الذاكرة. هذه الفلكة الجميلة في أعوام الخمسينيات كانت تسمى فلكة الاحتفالات. لان حولها كانت تقام مختلف الاحتفالات الوطنية. ويسميها الناس فلكة الرمادية او فلكة شارع المحطة أيضأ.
إن وقفت في وسطها أينما اتجهت ستتمتع بمعالم تختزن ألاف الذكريات لكادحي شهربان وأغنيائها وأصحاب الأملاك والبساتين المحيطة…
اليوم سأتجه بصحبتكم الى شارع المحطة / أمام سافر...
بالنسبة لأهل الزمن الجميل شارع المحطة يعني شيئين هما محطة القطار وفرجة الأمام سافر… لكل شهرباني’ وشهرباني ذكرى مع شارع المحطة هذا …
فان لم يكن من هواة رؤية القطار والمحطة فلا بد أن يكون قد ذهب يوماً الى فرجة الأمام سافر التي تقام هنا في هذا الشارع ثالث أيام العيد مرتين في السنه… او ربما يمتلك هناك احد البساتين المحاذية لهذا الشارع من الجانبين.
- على منحنى هذه الفلكة الواقع بين بداية شارع السوق وشارع المحطة كان مدخل كراج بغداد ومحل معجنات (جركجي) يليه - خان عبود ثم دارين …
- الأول للمرحوم حجي احمد والد السيد منعم؛ والثاني يعود للمرحوم الفنان فؤاد المقدادي. إن كنتم تتذكرونة والذي اشتهر بين أهل شهربان حين ظهر في مسرحية (الدبخانه) التي ذاع صيتها في الستينيات وكان يرد دائما العبارة الشهربانية الظريفة التي اشتهر فيها عراقياً وتخلد بها (لا دوخ ) … ومن جوار داره يمر فرع يربط محلة الحداحدة بشارع المحطة.
- على منحنى هذه الفلكة الواقع بين بداية شارع المحطة ومدخل شارع محلة الرمادية يقع محل نجاره السيد لطيف عواد يليه~ مقهى السيد خليل حمزة أبو كريم.
- بعده بيت المرحوم حسين فدعم (فيما بعد مكتب عقارات المقاول المعروف خضير النجم وأولاده)...
- وكانت تجاوره أنذأك بناية البيطرة فمخزن لبيع وتسويق الخشب (خصوصا خشب القوغ المستخدم في البناء) في مكان مخزن تسويق الخشب هذا تم تشيد جامع الاورفلي الموجود حالياً …
على منحنى هذه الفلكة الواقع بين بداية شارع الرمادية والشارع المتجه الى حدائق الزعيم والى الحي العصري. تقع مَحَالّ الفارسية وكان أصحابها (السيد عبد اللطيف خلف المطلك والسيد سامي جواد)...
ثم محل حداده السيد ياسين الحداد يليه~ موقف باص مصلحة نقل الركاب... ومحل الحاج علي الهنداوي ثم بناية المصرف (مصرف الرافدين) وكان قبلها بيت ساكن فيه السائق عبد الرزاق المهداوي (والد السائق صلاح حَكّْومَة) …
ثم محل السيد نصيف سعود ... محل أحذية باتا الفاخرة ~ هل تذكرونها ؟
يليه محل السيد محمود نصرت (مصلح التليفزيونات) وفوقهم يقع الفندق ومدخله باب صغير بين محل السيد نصيف سعود والمصرف …
كانت تقع في هذا الركن من الشارع أيضا مقهى حقي ... على منحنى هذه الفلكة الواقع بين بداية شارع السوق والشارع المتجه الى حدائق الزعيم والى الحي العصري يقع مكتب المحامي نوري إبراهيم حمكه ~ ابن إبراهيم الحلاق وأخ خليل أبو عطارد...
ثم مَحَالّ نجيب للمشروبات، ثم مطعم أسعد، ومحل المعمار دار السيد أسطة مجيد للمواد الإنشائية، ثم النادي، ثم بستان بيت الفارسي (عزت ونصرت الفارسي) وكيلهم إبراهيم علو أبو عدنان …
بيت الفارسي لهم مقاطعات وبساتين اخرى منها مقاطعة الجلالي ووكيلهم السيد عبد الرحمن جبر.
يبدأ شارع الأمام سافر من فلكة الرمادية في سوق شهربان ويمر بين بساتين عشقنا الشهرباني لعدة أميال قبل أن يصل الى المحطة.
لا ادري كيف كان هذا الشارع الضيق والملتوي أحياننا يستوعب كل أهل شهربان وقراها في فرجة الأمام سافر؟
ولا ادري كيف وأين يجد المتفرجين الفسح للعب الجوبي على الطبل والمطبج المزوج، ولطبلات لاعبي اللكو او الجتري "شالوا الجتري وعلكوا". ولمراجيح الاطفال ولبياعي الرصيف من السكائر الى المشروبات الى لفات العنبه والكباب والكبه، ولصفكة العربيات (نساء القرى) …
الشارع مزدحم بحيث يصعب عليك الحركة أحيانا لكن الجميع فرحان ويتمنى أن لا ينتهي اليوم ...
لو حصل نفس ذلك الازدحام في هذه الأيام فسيكون غنيمة لأصحاب المفخخات واللاصقات والكواتم والخطف. وسيكون القتل بالمئات لكنه حصل في زمن لم تخترع أو تكتشف الطائفية بعد.
حصل يوم لم يعرف الناس سياسة القتل على الهوية ولا فرق عند الناس بين من كان اسمه عمر أو اسمه علي فكلهم أولياء الله . والاسم ليس هو ذنب المسمى فليس هو من اختاره وليداً بل أبويه هم من اختاره له...
وكم تم قتل من اسمه علي أو عمر وليس له ذنب في هذه الدنيا ~ حتى اسمه ليس هو من اختاره.
ذلك الازدحام حصل والناس على نياتها ~ حصل في زمن كان حين يمدح العراقيون أهل ديالى ... يقولون ثلثين الطك لأهل ديالى … ولم يقولوا ثلثين الطك لأهل الشيعة او ثلثين الطك لأهل السنة او ثلثين الطك للعرب او الأكراد.
حصل في زمن كان فيه العراق أولا مع حفظ المقامات والانتماءات والأطياف والأصول ~ حصل يوم كانت المواطنة هي سيدة الانتماءات … إنها أيام من اجمل أيام العمر …
ما هي الطائفية لا نعرفها لم نسمع بها ~ ملعون يا زمن ؟
لن يعود متفرج ولن تعود متفرجه من أهل شهربان قبل أن تصل محطة القطار حيث إن الازدحام لا يوصف ولا يدرك ذلك إلا من عاشة وعاصره …
لن يعود احد من المتفرجين قبل الوصول الى حائط مبكى شهربان … فصارت المحطة مزار ولكن ليس للبكاء على القبور كما هو في جميع مزاراتنا الأخرى إنما للفرح والمرح والسرور فقط … نزورها أطفال وشباب وشيوخ نزورها نساء ورجال...
شارع الإمام سافر الجميل ينتهي بواحد من اجمل المواقع في شهربان واقربها الى قلوبهم ~ إنها محطة القطار والسكك والقطارات وبخارها وصفير هورانتها وأشياء اخرى …
من حسنات الاستعمار البريطاني القليلة التي تركها خلفه في العراق هي سكك ومحطات القطار...
هو لم يتركها كرم وهبه للشعب العراقي هو تركها لعدم رغبته في تفكيكها وحملها معه كون ذلك مكلف جدا وليس له فائدة سوى خرده لمعامل الحديد والصلب (حسبها عدل أبو ناجي) ...
تأكدت بنفسي وبالعين المجردة إن سكك الحديد وتصاميم بنايات محطات القطار في العراق تماثل تلك التي تربط المدن البريطانية …
الفرق هو إن سككهم ومحطاتهم ما زالت باقيه كما هي في حين ففكك العراقيون حديد السكك وصادروه والآن صارت اثر بعد عين (ليطمأن ويرتاح أبو ناجي فلم يستفاد الشعب العراقي منها)...
لمحطة القطار اثر في نفوس وفي قلوب وضمائر أهل شهربان ~ ليس لفوائدها وهي كثيرة إنما لرومانسيتها كاثر جميل ورمز حضاري أنيق ووشم مطبوع في مخيلة أهل شهربان.
لا اعتقد بان احد من شهربان وقراها في الأحمر والجلالي والبازول وجقجق وبلور وجزيره وبابلان والعالي وأهل الصدور لا يطلق حسره وتنهد كلما تذكرها ومرت على البال...
هناك شخوص ومعالم وصروح في المدن العريقة... محطة القطار وحركة القطارات هي احد صروح تلك المدن... ذلك يعني مدينة شهربان كانت قبل نصف قرن من الزمان اكثر رقياً حضارياً ومعالم من هذه الأيام...
لأهل شهربان حكايات وحكايات مع المحطة والقطارات المارة كل يوم منها... الفلاح والعامل يقنن وقته وعمله معتمدا على توقيتات ومواعيد مرور هذه القطارات...
فهم لم يكونوا في حاجه الى الساعات للتذكير فقطار الظهر يمر بموعد محدد كل يوم لحد الدقيقة وكذلك قطار نصف الليل أو قطار الضحى (قطارإهدعش) ويسمونه "أشبيشن" ولا اعرف لماذا سموه هكذا وهي تحريف لكلمة (Special)…
على عكس نظرية التاثير السلبي للضجيج فان سكان القرى والقصبات المحاذيه لسكك الحديد تعودوا ان يناموا عميقا على صوته وصفيره وهديره وعزف عرباته المتتاليه المتناغمه عندما تمرعلى مقاطع ومفاصل سكة الحديد.
سيمفونية وايقاع ازلي ومساج طبيعي للاعصاب المتعبة يغري الجسم للاستسلام للنوم العميق .
هنا تذكرت احتجاج اهل منطقة الكسره في السبعينات في بغداد وقد كتبت عنهم الصحافة لعدم قدرهم على النوم بعد ان غيرت او ألغت الحكومه مسار سكة القطار الماره قربهم -اجسامهم تعودت على واستسلمت الى هدير وعصف عربات القطارات الماره- حين توقفت القطارات ساد عندهم السهر ..
لقد وصلت العلاقه بين سكان الكسره هؤلاء وقطاراتهم الى حد الوله والصبابه والتخدير والنوم المريح ..
القطار كان صديق ونديم لعشاق شهربان .. هناك حنين وبحة حزن في صوت القطارات وفي فرامل عرباتها وفراكينها حينما تمر في سكون الليل وفي صفير صفارتها الناعب الحزين المتقطع الاتي من بعيد حين تقترب من المحطة.
احب اهل شهربان محطة القطار وهي مجرد مباني وقضبان حديد لان لها وشما ومسجا في مخيلتنا ولان لها ومضاً وتشفيراً في عقولنا والاف التفاصيل من الذكريات على شغاف قلوبنا ...
القطار وجرجرة فراكينه والابتعاد التدريجي لصوته وسكون الليل هو امر يحصل كل ليل لذلك هو صادق العشاق عنوه وصار خليلهم يشكون همهم له ومع نفث دخانه تنفث الاهات المتراكمه الخائفه...
محطة القطار هي مجرد بنايه وقضبان حديد وفراكين متروكه هنا وهناك ومسافرين لكننا عشقناها ~ فاليها نحج في كل عيد حيث تقام فرجة الامام سافر...
كيف ننساها ومنها كان يعود رياضيوا شهربان ومنهم العداء والمربي لاحقاً "ابراهيم جمعه صالح" محملين بكؤوس الفوز حيث كان يستقبلهم اهل شهربان (هذا الكاس يلمع وعيونهم تدمع ) ..
كيف ننساها ومنها نزل الشاعر الشعبي الشهير ملا عبود الكرخي حين جاء الى شهربان لحضور حفل انتخاب الشيخ سلامه الحسب الى مجلس الاعيان وحين وصل محطة قطار شهربان لم يجد احد لأستقباله فمشى من المحطة الى مضيف ال سلامة على الاقدام حينها قال قصيدته الشهيرة ~ شهربان (موجودة في ديوانه) ...
كيف ننساها وفناننا فؤاد المقدادي مثل وصور عندها فصلا من احدى المسرحيات العراقيه المشهوره (اعتقد النخله والجيران عام ١٩٦٨... يتذكر اهل الستينات) ...
كيف ننساها ورسائل حبايبنا واولادنا واصدقائنا تصل الينا عن طريقها ... وكيف ننساها وهي حائط مبكانا في كلا العيدين ففي شارعها ياما تجمهرنا وتمتعنا ولعبنا.
محطة قطار شهربان اهملت وهجرتها القطارات واختفت سكة الحديد وصدأت وتاكلت الفاركونات المتروكه - فلا غرف قطع التذاكر ولا مكتب المدير ولا عدة المنظفين والعمال والمسافرين ..
الرحمة على من عمل فيها طوال سنين العمر~ ومنهم ماعرفت من اسماء .. المرحوم محمود خلف محمد الجبوري (ابو هادي) ... المرحوم عباس الزيدان خلف الجبوري (ابو خضير) .. المرحوم صالح ملا (ابو حسن ) والعمر المديد لمعاون مدير المحطة السيد عبدالقادر المهداوي ~ والد صديقنا الكابتن مالك...