كان أول ما دخل أنفي عند دخولي صالة الوصول في مطار شيريميتييفو، الرائحة الروسية الخاصة التي تعبق في الجو، وهي رائحة غير رائحة العراق.
شممت مثلها في الطائرات والأجهزة والمعدات الروسية التي عملت عليها، كانت رائحة لا أعرف كيف أصفها.
لكني أقول أن كل الذين تعاملوا مع الأجهزة الروسية سيشم مثل تلك الرائحة، وسترافقني في كل مكان أذهب إليه، إن كان في المعسكر أو في الصف الذي أدرس فيه.
أو في الحانوت الصغير في المدرسة التي أدرس فيها، أو في المطعم الذي أتناول فيه وجبتي اليومية، أو في فندقي داخل المعسكر، أو في النادي الليلي، أو عندما أجلس أو أنام أو أسير مع صديقتي الروسية، أو عندما أدخل الأسواق لتبضع ما أريد.
ربما جاءت هذه الرائحة من مجموعة العوامل التي يساعدها برودة الجو، والثلج النازل في عموم روسيا، ومن هذه العوامل:-
الطبخ الخاص للأكل، نوعيته، ونوعية الشراب المحلي وهو "الفودكا"، وكذلك الثوم الذي يأكله نيئا أغلب الروس، ونوعية العلاقات الاجتماعية التي يكثر شرب الفودكا أثناءها، وهكذا.
وصلت مع مرافقي في سيارته إلى الفندق، وكان أن حجز لي سابقا فيه، وأوصلني إلى غرفتي ومنحني مبلغا من المال لحين أن أصرف ما عندي من دولارات إلى الروبل الروسي...
وأوصاني أن لا أصرف سوى القليل، لأن هناك الصرف الحكومي وهو قليل، والصرف في السوق السوداء وهو الكثير، وأعطاني عنوان السفارة العراقية مكتوباً في ورقة، وودّعني وغادر.
كانت الغرفة مدفأة بنظام التدفئة المركزي بواسطة الماء الحار، من خلال مشعات تشبه المدفئة الزيتية، وهو نظام موجود في معسكر الحبانية.
بدأ الحزن يغزو مشاعري ولم يمض علىَ في موسكو إلّا ساعة ونصف منذ هبوط الطائرة على أرض المطار إلى أن وصلت إلى الفندق، تركت كل شيء في غرفتي ونزلت.
كان الفندق ليس بدرجة الفنادق ذات النجوم الخمسة، ولم يكن فندقاً جديداً بل كان فندق ربما بني من زمن ما قبل الحرب العالمية الثانية.
كان في غرفتي مرحاض وحمام، لم أغيّر ملابسي لأنها لم يمض على ارتدائها سوى أقل من ست ساعات، بين الخروج من بيت قريبي في بغداد، ووصولي إلى الفندق في موسكو.
أيضاً كنت لا أملك بدلة أخرى للأسباب التي ذكرتها، فأنا في الاتحاد السوفيتي صاحب الصناعة المتطورة في كل شيء!، وأقوى دولة في العالم.
صناعة الطائرات فيها متقدمة، وقد غزت الفضاء كأول دولة في هذا المضمار، وسأبتاع بدلات كثيرة حسب الموضة السائدة.
نزلت إلى مطعم الفندق لتناول طعام العشاء، وقد كانت تلك الرائحة هي أول ما دخل خياشيمي، فاستنشقتها، وكانت غير الرائحة في أجواء العراق.
ورحت أنظر إلى ما في "الجام خانة" (1) الموجودة في المطعم، والتي يعرضون فيها أنواع الأكل، فلم يعجبني كل الأكل، لأنني كنت أحذر من أكل لحم الخنزير.
هذه ثقافة نملكها منذ وعينا الأولي للحياة من خلال عائلتي ومدرستي والمجتمع الذي أعيش فيه، وهو بلا وعي مني، وللحم الخنزير حكاية سأقصها في فصل مقبل.
كانت "الجام خانة" تعرض أنواع المأكولات التي أعرف بعضها وأجهل الآخر، وكان الدجاج المذبوح والنيئ المعروض في الجام خانة للمطعم معلق من رقبته التي استطالت كثيرا، فـ "چزت"(2) نفسي منه.
طلبت من الجرسون أن يعطيني تلك "الكاسة" (3) التي فيها ما يشبه "الفوح" (4) الجامد، إذ تركته مثل المحلّبي (5)، أو فوح، وفكرت مع نفسي سأقضي هذا اليوم أو اليومين التاليين في موسكو أتناول من هذه الأكلة لكي لا أقع في المحذور.
لحين معرفة أنواع الأكل في الاتحاد السوفيتي، جلست إلى الطاولة وقدم لي الجرسون الكاسة، وعندما أخذت ملعقة منها كدت أن أتقيأ، كانت مليئة بشيء مثل "زواع البزازين(6)، فتركته ونهضت وغادرت مطعم الفندق.
كانت وجهتي الساحة الحمراء، وضريح القائد الشيوعي لينين، كان الليل قد هبط عليها، وهبط على مناطق الاتحاد السوفيتي التي تقع ضمن خطوط الطول التي تغادرها الشمس.
على الرغم من نزول وفر من الثلج من السماء، كانت هناك مجموعة من الناس تقف في صف لزيارة الضريح، وكان الجو دافئا لعدم وجود رياح عالية تلفح الأجسام بسياطها فتجعلها "تنفض"(7) من شدة البرد، لهذا كان معطفي الخفيف كافٍ لمثل هذا الجو.
 |
| الساحة الحمراء في موسكو |
رحت أدور في الشوارع القريبة من الساحة الحمراء، وكانت عظامي من تحت معطفي تصطك قليلا من البرد الثلجي، وإذا بكشك خشبي في بداية زقاق فرعي، يقف أمامه صف من الناس، نساء ورجال، وهم يشترون كيك وقدح عصير، أو شربت فواكه.
وقفت في الصف، وعندما جاء دوري، أشرت كالأخرس على كيكة وقدح شربت، وأخرجت "الكوبيكات"(8) المعدنية التي سلمنى إياها النائب الضابط، وأفردتها في راحة كفي، فاختارت البائعة ثمن ما أخذته منها...
هذه العادة ستتكرر مني في أي شيء أشتريه لأدفع ثمنه إلى أن عدت إلى العراق، ولا يعني هذا أنني لم أتعلم التكلم باللغة الروسية عن الثمن، وإنما للسهولة التي وجدتها في هذه الطريقة...
أيضاً، فقد تقوّت لغتي الانكليزية، لأن صديقتي الروسية تتكلم بها بطلاقة، فارتحت لذلك كثيرا.
أكلت الكيكة التي في داخلها قطعة جبن وشربت العصير، وعدت مرة ثانية إلى الصف، واشتريت أيضا كيكة وشربت، وأكلتهما، وعدت مرة ثالثة واشتريت كذلك الكيكة والشربت وأكلتهما حتى شبعت.
كانت الفتاة التي تبيع في الكشك تبتسم لي كل مرة أعود فيها، وخاصة عندما أفرد الكوبكات في كفي وأتركها تختار الثمن.
بعد ذلك عدت إلى الفندق عندما سحبت الشمس آخر خيوط ضوئها الباهت من صفحة السماء الغائمة فتخمد المدينة في شبه سبات، فيما تفتح المطاعم والمراقص أبوابها، فيبدأ السهر.
كان أول ما شدني إلى هذا المجتمع هو النظام في أي شيء، في ركوب السيارات أو الحافلات، أو في التسوق، أو في الدخول لأي شيء، كان النظام هو المطبق.
وجدت ذلك في زوار ضريح لينين، وكذلك عند مشتريي الكيك والشربت والعصير من الكشك الصغير إذ إنهم يقفون في الصف، أحدهم خلف الآخر، ولا يتزاحمون فيما بينهم، إنهم يأخذون كل شيء الواحد بعد الآخر.
هذا ما شاهدته عندما ركبت في اليوم الثاني سيارة أجرة، فقد جاء بعدي شخصين يريدون سيارة أجرة فوقفوا خلفي، الواحد بعد الآخر، تعرفت على هذا السلوك المتقدم خلال ساعات قليلة من وصولي إلى موسكو.
كذلك رأيت الثلج النازل وهو يعزف لحن الطبيعة الصامت، ودفء الجو الذي يسري في عروقي، والوقوف في الصف، لقد عرفت أن الثلج مهما نزل فإنه يبقي الجو دافئا طالما لا رياح هناك تبرد به، فيبرد الجو.
الاتحاد السوفيتي، وعاصمته روسيا المدينة الجميلة، والمنظمة، والتي تضم تماثيل وأنصاب كثيرة، وفتياتها الجميلات، وهي تضم أعراق وقوميات كبيرة بسبب إنها الدولة الشيوعية الأولى في العالم، ومنها العِرق الأسود، والعرق الأصفر.
في السفرة الثانية لي بعد سنتين إلى موسكو، وفي الفندق، رأيت شاب أفريقي وزوجته الروسية الجميلة وكان ابنهم ذو الأربع سنوات يجمع بين لون أبيه الأسود، ولون أمه الأبيض، لون قريب إلى الرمادي.
وقد فهمت من يقول أن الدولة تتدخل في مثل هذه الأمور عندما يكون الشاب من دولة فقيرة، فإنها تريد أن تكسب "رفيق" للحزب، ويكون عيناً لها في ذلك البلد.
أكثر قضايا الدورة نجدها كأخبار تتداول بين الفتيات صديقاتنا في مدينة إيفانوفا، وكلمة صديقة أكثر أدباً من غيرها من الكلمات.
فنحن كنا نسمع منهن وصول بعض أفراد الدورة من الضباط المهندسين والمراتب الفنيين الأرضيين، بعد أكثر من شهرين، وكان الكثير منهن يعرفن أن العسكري العراقي لا يمكنه الزواج بأجنبية، وإلّا فإنه يفصل.
من خلال هذه الأمور يمكن معرفة "صديقاتنا الروسيات في إيفانوفا" على أنهن فتيات اشتغلت عليهن المخابرات الروسية.
بعد وصولي إلى إيفانوفا بإسبوع، وعند عودتنا من الدراسة وتناول وجبة الغداء، وجدت أن خزانة ملابسي، وحقيبتي الكبيرة، قد فتشا تفتيشا مثيرا، وكل شيء فيهما غيّر مكانه.
أخبرت آمر الدورة بذلك، وخرجنا باستنتاج مفاده:- إنهم ظنوا بي كمسؤول أمن الدورة، أو مسؤولها الحزبي، ولم أكن أنا في أي منصب من تلك المناصب.
الهوامش:-
1- الجام خانة: نضد لعرض اشياء في المحل واجهته زجاجية.
2- ڇزّت: اشمأزت نفسي.
3- الكاسة: الطاسة، اناء صغير لوضع الاكل أو الشرب فيه.
4- الفوح:وهو الماء الذي يصاحب طبخ الرز ويكون سائلا ثخين.
5- محلّبي:وهو الحليب يضاف له النشأ لصنع حساء قوامه ثقيل.
6- زواع البزازين: قيء القطط، وهو مثل يقال على الأكل الباهت وغير المستساغ ذوقا.
7 - ينفض: يرتجف.
8 - كوبيك: أصغر عملة معدنية روسية.
