الكتاتيب والملالي: رحلة التعليم في الزمن القديم
في الأزمنة القديمة، قبل انتشار المدارس النظامية، كانت الكتاتيب هي النواة الأولى للتعليم، حيث اجتمع الأطفال في ساحات صغيرة أو غرف طينية ليتعلموا القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم على يد الملالي، الذين كانوا يمثلون رموز العلم والدين في مجتمعاتهم. لم تكن هناك مقاعد دراسية مريحة أو كتب مطبوعة، بل ألواح خشبية وأصابع صغيرة تكتب بالحبر الأسود على صفحات الزمن.
![]() |
الكتاتيب والملالي: رحلة التعليم في الزمن القديم |
في قلب قرية بروانة، التي احتضنها نهر ديالى لقرون، برز اسم ملا سلمان الحديدي، الرجل الذي كرّس حياته لنشر العلم رغم قلة الإمكانيات. لم يكن مجرد معلم، بل كان شخصية ذات هيبة وتأثير، غرس في تلاميذه الانضباط والقيم الأخلاقية إلى جانب المعرفة. رحلته في التعليم لم تكن سهلة، لكنها صنعت أثرًا لا يُنسى في نفوس من تعلموا على يديه، ليظل اسمه خالدًا في ذاكرة الأجيال.
الكتاتيب: معاقل العلم الأولى
لم تكن ظروف التعلم في الكتاتيب سهلة، فكانت الطرق المؤدية إليها وعرة، محفوفة بالأشجار الكثيفة والوحل في الشتاء. لم يكن لدى الأطفال ملابس تقيهم البرد، وكانوا يتوجهون إلى الملا بثياب بالية، لكنهم امتلكوا العزيمة للتعلم.
الكتاتيب: معاقل العلم الأولى
لم تكن ظروف التعلم في الكتاتيب سهلة، فكانت الطرق المؤدية إليها وعرة، محفوفة بالأشجار الكثيفة والوحل في الشتاء. لم يكن لدى الأطفال ملابس تقيهم البرد، وكانوا يتوجهون إلى الملا بثياب بالية، لكنهم امتلكوا العزيمة للتعلم.
كان أسلوب التعليم بأسلوب "الف تو زبرلن"(الزبره فتحه)،"الزيره" (كسره الألف)، "تو زيرلن" (الف تحتها كسرتان) ملا سلمان الحديدي! قرية بروانه (الصغيرة وأختها الكبيرة) تحتضن نهر ديالى العظيم على مر الدهور والعصور والازمنة.
"من علمني حرفا ملَكنِّي عبداً"هكذا تعلمناها ومشينا خطى متعبه فيها!! قيل ! وكأن للذكريات قلبا لاينبض الا في الليل! واصعب منها الذكريات التي لا تموت تميت !!!! وهكذا لانقدر التخلص من هذه الذكريات متعزين، من حفظ الماضي في صدره اضاف عمرا الى عمره، وسنبقى نعيش في ذكريات ماض مقدس.
ملا سلمان الحديدي: الرجل الذي صنع الفرق
في زمنٍ كانت فيه المدارس النظامية نادرة، برزت الكتاتيب كأهم مصدر للتعليم، حيث تعلم الأطفال القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم على يد الملالي. لم تكن هذه الرحلة سهلة، إذ كان الأطفال يسيرون عبر طرق وعرة محفوفة بالأشجار المتشابكة، وأحيانًا وسط فيضانات وأمطار غزيرة، بملابس رثة بالكاد تقيهم البرد. في قرية بروانة، التي تبعد عدة كيلومترات عن أقرب مدرسة، كان الحل الوحيد أمام الأهالي هو ملا سلمان الحديدي، الرجل الذي نذر حياته لنشر العلم.
في أواخر الثلاثينيات، لم تعد الحاجة إليه في قريته، فانتقل إلى القرى المجاورة، متنقلًا على قدميه، إذ لم يركب سيارة قط في حياته. تم بناء غرفة طينية صغيرة على أطراف بروانة، قطرها لا يتجاوز ثلاثة أمتار، فكانت مركزًا لنقل العلم والانضباط. رغم قصر قامته، كان يمتلك هيبة استثنائية جعلت الجميع يحترمونه، حتى عندما كان يعاقب تلاميذه بقسوة إن أخطأوا.
كان ملا سلمان مخلصًا لرسالته، لا يعمل لأجل الحياة الدنيا، بل بحثًا عن الأجر في الآخرة. ظل يمارس التعليم حتى آخر أيامه، مخلفًا وراءه إرثًا من المعرفة والانضباط في نفوس من تعلموا على يديه.
أساليب التعليم والانضباط الصارم
كان تعليم القرآن الكريم في الكتاتيب يعتمد بشكل أساسي على التكرار والحفظ، حيث يجلس التلاميذ في حلقات متراصة، يرددون الآيات بصوتٍ عالٍ حتى ترسخ في أذهانهم. لم يكن هناك وسائل تعليمية متطورة، بل اعتمد التعليم على الحفظ والاستظهار، مع التركيز على النطق السليم وأحكام التجويد.
اشتهر ملا سلمان الحديدي بأسلوبه الصارم في التعليم والانضباط، إذ كان يؤمن بأن الصرامة تولّد النجاح. لم يكن يتهاون مع التلاميذ الذين يتكاسلون عن أداء واجباتهم، وكان يحمل عصاه الخشبية التي اعتبرها رمزًا للالتزام. ذات مرة، حينما تخلف أحد التلاميذ عن أداء واجبه، أمر زملاءه بأن يمسكوا قدميه، ثم قام بضربه على باطن قدميه بعصاه التي تشبه "العوجية"، وكأنه يستعرض وحدة عسكرية أثناء التدريب.
ورغم هذه القسوة، لم يكن ملا سلمان يهدف إلى العقاب بحد ذاته، بل كان يسعى لغرس قيم الالتزام والجدية في نفوس طلابه. كان يُسعده أن يرى أحدهم يتقن التلاوة، وكان يفرح فرحًا شديدًا عندما يختم أحدهم القرآن، معتبرًا ذلك جزاؤه الحقيقي في الدنيا والآخرة.
احتفالات التخرج: فرحة لا تُنسى
عند إتمام الطالب حفظ القرآن الكريم، كانت القرية بأكملها تحتفل بهذه المناسبة العظيمة بموكب مهيب يعكس مكانة العلم في المجتمع. كان التلميذ يرتدي "بيرمه ملونة"، وهو مئزر خاص بالمناسبة، ويسير وسط زملائه في الشارع الرئيسي للقرية، الذي يبلغ طوله 100 متر، بينما تتعالى الزغاريد من النساء، ويرمي الأهالي الحلوى (الملبس) فرحًا بإنجازه العظيم.
في هذه اللحظات، كان ملا سلمان الحديدي يقف مزهوًا وسط الحشود، يراقب التلميذ وهو يسير بخطى واثقة نحو مستقبله، ممتلئًا بالفخر والاعتزاز، فقد أدى رسالته في نشر العلم. كان يبتسم ابتسامة نادرة، وهو يعلم أن هذا الطفل الذي كان قبل سنوات لا يجيد القراءة، بات اليوم حافظًا لكتاب الله، ومستعدًا للالتحاق بالمدرسة في بروانة، حيث يتم قبوله أحيانًا في الصف الثاني أو الثالث وفقًا لمهاراته.
كان ذلك اليوم بمثابة عيد في القرية، يتذكره الجميع، إذ كان حفظ القرآن يعد أعظم إنجاز يمكن أن يحققه الطفل، ووسيلة لمستقبل مشرق، في مجتمع يرى في العلم نورًا وفي القرآن بركةً لا تضاهى.
أسطورة ملا سلمان: بين الواقع والخيال
مرت السنوات، وتغيرت ملامح القرية، لكن غرفة ملا سلمان الطينية بقيت قائمة لعقود، حتى تم توزيع الأراضي المحيطة بها. لم يكن مجرد مكان، بل كان شاهدًا على حقبة من العلم والانضباط، ونسجت حوله القصص والأساطير التي زادت من غموضه.
كان بعض الأهالي يقسمون أنهم رأوا نورًا ينبعث من الغرفة رغم أنها كانت بلا سقف، وآخرون أكدوا أنهم سمعوا أصواتًا غامضة تصدر منها ليلاً. أصبح المرور بجانبها ليلاً أمرًا مهيبًا، فحتى أكثر الرجال شجاعة كانوا يبتعدون عنها مسافة 30 مترًا خوفًا من المجهول.
رغم مرور الزمن رحل جميع تلاميذه، ولم يبقَ منهم أحد، لكن ذكراه بقيت خالدة في عقول من تعلموا على يديه. وكأن الزمان يأبى أن يطوي صفحة رجل كرس حياته للعلم والتربية.
لم يكن ملا سلمان مجرد معلم، بل كان منارة أضاءت عقول الأجيال، فمهما تغيرت الأرض وتبدلت الأيام، ستبقى ذكراه محفورة في وجدان من سمعوا عنه وعرفوا قيمته في نشر العلم والبصيرة.
العلم سلاح ضد الجهل
كما قال الإمام علي (ع): "العلم يميت الجهل"، وهذا ما جسّده ملا سلمان طوال حياته. لم يكن مجرد معلم للقرآن الكريم، بل كان رجل معرفة وثقافة، يتحدث عدة لغات، منها التركية، الألمانية، الإنجليزية، والكردية، مما أكسبه مكانة واحترامًا بين الناس.
ورغم حفظه الكامل للقرآن الكريم، لم يكن يحمل مصحفًا معه، فقد كان آياته محفورة في قلبه وعقله. لم يقتصر دوره على التعليم فقط، بل عُرف بقدرته على علاج بعض الأمراض التقليدية، مثل عرق النسا والانزلاق الغضروفي والحسد والعين، مما جعل الناس يعتبرونه رجل بركة وكرامة.
كان ملا سلمان يعيش لخدمة الناس، متنقلًا بين القرى دون أن يركب سيارة قط، بل تحمله قدماه الصغيرتان كأن الرياح تدفعه، ناشرًا العلم والمعرفة أينما حلّ. لم يكن يسعى وراء المال، بل كان يقدم معظم خدماته مجانًا، إيمانًا منه بأن العلم رسالة مقدسة وسلاح ضد الجهل.
احترامه وهيبته جعلته محط تقدير من جميع طبقات المجتمع، فكان الكبير والصغير ينحنون احترامًا له. لم يكن مجرد رجل دين، بل كان علمًا متحركًا، ترك بصمة لن تُمحى في تاريخ قريته والمناطق المحيطة بها.
إرث لا يُنسى
أليس من حقنا أن نخلّد ذكرى هذا الرجل الذي حارب ظلام الجهل ونشر العلم بلا مقابل؟ لقد رحل ملا سلمان، لكنه لم يترك وراءه فراغًا، بل بصمات لا تُمحى، تمامًا كما يبقى أثر الشمعة التي تضيء الطريق لمن يأتي بعدها.
كان رمزًا للتضحية والعمل بلا كلل، رجلًا نذر حياته للعلم والمعرفة، دون أن ينتظر مقابلًا سوى رضا الله. لم يكن مجرد مُعلم، بل كان قدوة، ومصدر إلهام لأجيال حملوا نوره في عقولهم وقلوبهم.
لو أُتيحت له الإمكانيات التي نملكها اليوم، لربما أصبح سقراط أو العقاد زمانه، لكنه، رغم قسوة الظروف، صنع من العدم علمًا، وترك أثرًا خالدًا في نفوس من تعلموا على يديه.
إن رحم الله ملا سلمان، فقد بقي عطاؤه ممتدًا حتى بعد رحيله، وكأنه لم يمت، بل يعيش في ذاكرة كل من سمع عنه أو نهل من علمه. فهو لم يكن مجرد رجل في قرية بروانة، بل كان رمزًا خالدًا للعلم والتضحية، وسيظل اسمه محفورًا على كل لسان.
دروس مستفادة من تجربة ملا سلمان
لا تزال تجربة ملا سلمان تمثل درسًا مهمًا في أهمية التعليم والإصرار على نشر المعرفة رغم قلة الإمكانيات. هناك العديد من النقاط التي يمكن استخلاصها من مسيرته:
-
التعليم رسالة سامية: لم يكن ملا سلمان يهدف إلى مكسب مادي، بل كان يسعى لنشر العلم والمعرفة بين الأطفال.
-
الانضباط أساس النجاح: رغم قسوته في العقاب، إلا أن ذلك أسهم في تشكيل شخصيات قوية واعية بين تلاميذه.
-
العمل الخيري يعزز المجتمعات: لم يكن تعليمه يقتصر على القرآن فحسب، بل امتد ليشمل تقديم العلاجات التقليدية والمساعدة في حل المشكلات الاجتماعية.
-
الإيمان بقيمة العلم: كان يحفظ القرآن كاملًا دون الحاجة إلى مصحف، مما يعكس مدى تعلقه بالعلم وإتقانه له.
لم يعد النسيان ممكنا من الذكريات لانها لازالت مكدسه وتابى ان تغادر !! الطيبون كثار نتذكرهم لان ما اسدوا للاخرين من معروف كثير!! رحم الله ملا سلمان الحياة التي استمرت بالعطاء حتى بعد رحيله لانه زرع العلم والخير!!!
خاتمة: إرث خالد تبقى ذكرى ملا سلمان شاهدة على أن التعليم قادر على تغيير حياة الأفراد والمجتمعات. ورغم مرور الزمن، لا تزال بصماته خالدة في عقول من تعلموا منه.
لذلك، علينا جميعًا أن نحمل مشعل العلم ونعمل على نشره بين الأجيال القادمة، تمامًا كما فعل ملا سلمان في زمانه. العلم نور، ومن يضيء الطريق لغيره، يبقى نوره مشعًا حتى بعد رحيله.
![]() |
بقلم الاستاذ خوام مهدي صالح الزرفي |