من ادب الرحلات" الكتاب المفتوح"
رحلة الى الاتحاد السوفيتي 1979"
القطار الذي افتر راسي فيه وانا " لحيمي"(1)
الفصل السابع
الكاتب/ داود سلمان الشويلي
"فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير"
- المنخّل اليشكري-
للسفر بواسطة القطارات (Поезда ) نكهة خاصة جربتها أثناء تنقلي بين مدينتي ومدينة البصرة في الصغر، حيث كنا نزور عائلة أجدادي لأمي، وبين مدينتي ومدينة بغداد في الكبر، حتى امتلكت سيارتي الخاصة، وكانت السفرة فيه مضنية ومتعبة، والمسافة تكون طويلة، كشعور نفسي ضاغط، إن كان ذلك في الليل أو في النهار.
تقع المدرسة التي ندرس فيها عن طائرة اليوشن/76 في مدينة ايفانوفا(2) التي تبعد عن موسكو إلى الشمال بـ 318 كيلو متر، وكانت منطقة ثلجية، وفي شهر تموز وآب تكون درجة الحرارة متوسطة، ويكون النهار طويلا في هذين الشهرين.
كان أكثر سكانها من النساء، لأنها تضم حوالي 75 % من معامل صناعة النسيج في روسيا، وأكثر العاملين في هذه الصناعة من النساء، وكانت المدينة قد تأثرت أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد وصلها التعمير والتطوير مؤخرا.
فبنيت فيها العمارات السكنية الجديدة، والأسواق، والنوادي الليلية، والمرافق العامة، وفيها سكة حديد تربطها بموسكو أيضا، ومحطتها قديمة بنيت قبل تاريخ قيام الحرب العالمية الثانية، ومدرستنا تقع في مطار يقع في المنطقة القديمة للمدينة.
ما زالت، حين زرت المدينة عام 1979، مناطق كثيرة من المدينة تحتفظ بعمارة مساكنها منذ أن بنيت قبل الحرب العالمية الثانية، حيث الدور المبنية بالخشب، والمرحاض الشرقي، وإسالة الماء الوحيدة لكل حي سكني، وهو عبارة عن مضخة تعمل باليد.
التقيت في السفارة بآمر الدورة والضابط الآخر صديقي الملازم "ك" الذين أتوا من مدينة إيفانوفا ليستلموا راتب أفراد الدورة، ويصرفوا الدولارات في السوق السوداء، وأخبروني أن ألتقي بهم في الساعة العاشرة في فندق "كرويينا" الذي ينزلون فيه.
كانا في انتظاري في صالة المدخل، رحنا ودخلنا النادي الخاص بالفندق، جلسنا على أحد المناضد، فجاء النادل وسألنا باللغة الروسية ماذا نطلب من أنواع الشراب، وعندما وصل الدور لي، شكرته وأخبرته أنني لا أشرب، وهذه حقيقة، فأنا لم أقرب أي نوع من المشروبات الكحولية، ولكنني مهيئا للشرب في ذلك الوقت، إذ فكرت مع نفسي لتكن هذه السفرة سفرة دراسة وترفيه، وكذلك تجارب، سألني آمر الدورة المقدم فيصل النقيب ضاحكا:
- من أي محافظة أنت؟
أجبته وأنا فخور:
- من محافظة ذي قار، وأسكن الناصرية.
قال مازحا:
- أتعرف أنه نشر في مجلة ألف باء استطلاع أظهر أن أكثر محافظة تصرف المشروبات الروحية هي الناصرية نسبة إلى سكانها.
كنت قد قرأت هذا الاستطلاع، وأعرف به، وصهري المتزوج من شقيقتي الكبيرة كان يشرب "العرق"(3)، وقد تركه بعد أن وقع له حادث من وراء شربه العرق، وصهري ألآخر، زوج شقيقتي الصغيرة، معلم مدرسة إبتدائية، وهو إلى الآن(4) يشرب العرق أيضا، وكان والدي في شبابه وقبل أن يتزوج من أمي كان يشرب العرق كذلك، لكنه تركه وقام يؤدي الفرائض الدينية، وذهب إلى الحج هو ووالدتي.
قال:
- أتريد أن تقنعني أن أحد أبناء الناصرية لا يشرب المشروبات الكحولية، هل هو بسبب الوازع الديني؟
قلت له:
- لا، ليس وازعا دينيا، ولكنني لم أشرب في حياتي.
قال بجد عرفت فيما بعد أنه كان يمزح:
- أين تذكرة الطائرة وجواز سفرك؟
قلت له:
- في جيبي،
قال:
- غدا ستعود إلى العراق، أنت لا تفيدني في الدورة.
كنت أعرف أنه يمزح معي، وكان ظريفا في قوله هذا، قلت له:
- إذا كان ولا بد، فأطلب لي كأس شراب لا يُسكِر!، وأنت تتكفل بما يحدث لي بعد ذلك.
قال وهو يضحك والضابط الآخر الملازم الأول "ك" أيضا يضحك:
- برقبتي هذه، وضرب رقبته بكف يده علامة على كفالته، وأن يكفلني في أي شيء يحدث لي.
هكذا شربت أول كأس لي في موسكو، حيث داومت على الشرب، كدوامي على طلب الفتاة في مرقص الفندق من أهلها للرقص معي.
كانت هناك فتاة بحدود السابعة عشر من عمرها تجلس مع والدها، قال لي المقدم فيصل أن أقوم وأطلب الرقص معها من والديها عندما تعزف الموسيقى.
عندما بدأت الموسيقى الراقصة تصدح في قاعة النادي، قمت من مائدتي واتجهت نحوها، وقرأت العبارة التي طلب مني المقدم فيصل أن أقولها لوالديها، وقد قرأتها أيضا في دفتري الصغير، فإذنا لي بمراقصتها، كانت فتاة جذابة، بدت لي مؤدبة وعلى شيء من الخلق كما يقول الحامي في مسرحية عادل امام "شاهد ما شافشي حاجة"، سألتني عن بلدي، وفهمت إنها تسألني إن كنا نلتقي مرة ثانية فأشرت لها أنني بعد ساعة أسافر إلى مدينة إيفانوفا، وهكذا كلما تعزف الموسيقى أذهب إليها وأطلبها من والديها، حتى أزفت ساعة الرحيل في الساعة الحادية عشر والنصف، إذ غادرنا الفندق إلى محطة القطار.
ركبنا القطار، وسار بنا في الليل فلا نرى أي شيء، كنا نقف خارج غرف نومنا، وكانت هناك فتيات روسيات أيضا في الممر، تحدث معهن المقدم والملازم الأول، كانت إحدى البنات تضع في إذنها سماعة إذن، ويهتز رأسها، وهي تسمع بعض الموسيقى من مسجل قصير، فيما كانت الفتاة الثانية تتحدث مع المقدم باللغة الانكليزية، والفتاة الثالثة تتكلم بحديث متعثر مع الملازم الأول(ك) وهو يتحدث معها بروسية متعثرة.
كنت انظر من نافذة القطار الذي يسير وقد ازدادت سرعته، فيما تشكل على الزجاج من جانبي ضباب، مسحت الضباب من عليها، كان الظلام هو الذي يبدو لي من خلف الزجاج، شعرت بدوران رأسي، كنت أنظر إلى كل الذي في قاطرتنا يدور ويتحرك.
فيما كان زجاج نوافذ القطار قد تغطت بماء المطر الذي ينزل كالخيوط تاركا خلفه مجرى متعرجا من الماء، كان الليل هو الذي غطى كل معالم الطريق فبدا من خلل زجاج النافذة اسودا يضاء بين فينة وأخرى بفعل مصباح الطريق.
عندها كلمت المقدم وأخبرته أنني دخت، وأخذ رأسي يفتر بي كالمرصاع(5)، فقادني إلى غرفة المنام، ودلني على فراش، ورحت أغط في النوم ولا أعرف أين توقف في طريقه، حتى سمعت صوته وهو يوقظني:
- انهض وشاهد هذه الغابة المكللة بالثلوج.
كان الصباح قد انبلج على غابة مكللة بالثلج ولا يرى فيها أي شيء سوى البياض الناصع الصامت وهو يعزف نشيد الطبيعة الخافت فيكسوها بلونه البارد تحت ضوء الفجر الباهر، فقد غمر الثلج كل شيء.
فيما رأيت من خلال النافذة كيف أن الثلج كلل الأشجار كلها به، ألبسها لبوسا أبيض، وتحس ان نبض الحياة ما زال مخزونا بداخلها رغم موتها، فقد غمر الثلج كل شيء، ولم ير حتى آثار حيوان ما، كانت عيدان الثلج المتجمد نازلة من أطراف أغصان الأشجار.
حتماً أن الركاب الروس قد تعودوا هذا المنظر فلم يشغلوا أنفسهم بالرؤية. هذه الغابات، وكل غابات روسيا، تنتظر الربيع لتعود الى الحياة، فتخضر، وتزهر، وتثمر حياة، ودفئا.
اقتربنا من مدينة ايفانوفا بعد أن خرجنا من منطقة الغابات الثلجية، دخلنا محطتنا الأخيرة.
كنت أرى الثلج عيانا لأول مرة في حياتي، وكل ما شاهدته من مناظر الثلج المتساقط في السينما أو التلفزيون لا يساوي شيئا من امتلاء ناظري بهذا البياض كالقطن.
صحوت بعد أن شربت، وسكرت لأول مرة في حياتي، بدأت بكأس "كونياك" وانتهيت بشيء لا أعرف ما هو، وإفترّ رأسي في القطار، ودخت، ولولا المقدم الملاح فيصل النقيب لأضعت طريقي إلى فراشي، ولم أشعر أني رب القطار، أو رب الفراش، أو رب القصر التاريخي الذي التقطت له صورة وأنا أقف أمامه، ولم أشعر بأني رب الشويهة والبعير بقدر ما شعرت بإنسانيتي كشاب عراقي في روسيا.
عندما وصلت إلى مدينة إيفانوفا في بداية الشهر الرابع، كانت في انتظارنا في محطة القطار سيارة من المدرسة جاءت لتقلنا إلى القاعدة الروسية التي فيها المدرسة، كان كل شيء في المدينة ثلج بثلج، شوارعها، سقوف بناياتها، أشجارها، أرضها الخضراء أو غير الخضراء، بياض في بياض، سوى جذوع الأشجار فكان لونها مائلا للسواد، وأوراقها قد نفضت نفضا من أغصانها.
في قصيدة بودلير"اسكروا" (6) يقول:
"يجب أن تسكروا على الدوام، الكل هناك،
إنها المسألة الوحيدة لأجل ألا تحسوا ثقل الزمن الفظيع
الذي يكسر أكتافكم و يحنيكم في اتجاه الأرض،
عليكم أن تسكروا بلا مهادنة،
لكن بماذا؟ بالخمر، بالشعر، أو بالفضيلة كما ترغبون، لكن اسكروا!
وإذا استفقتم أحياناً، على درجات قصر،على عشب خندق أخضر،
والسكر قد تراجع آنفاً أو اختفى،
اسألوا الريح، الموجة، النجمة، الطائر، الساعة،
كل ما يفر، كل ما ينوح، كل ما يتدحرج، كل ما يغني،
وكل ما يتكلم، اسألوا كم هي الساعة،
وسيجيبكم الريح، الموجة، النجمة، الطائر،
والساعة على أنه ميقات السكر، فلأجل ألا تكونوا عبيد الزمن المعذبين بشدة،
اسكروا، اسكروا بلا توقف، بالخمر،
بالشعر أو بالفضيلة كما ترغبون،"
اذكر أنني قررت أن اكتب وأنا اشرب الخمر فلم أستطع كتابة كلمة واحدة، وأعدت التجربة مرة أخرى ولم أستطع كتابة أي حرف واحد، عندها غيرت قراري في أن لا اكتب وأنا اشرب، لأن في الشرب أجد نفسي، وفي الكتابة أيضا أجد نفسي، وهما لا يلتقيان، أما الشرب أو الكتابة.
***
كان المقدم الملاح فيصل يقول دائما لمن يريد أن أذهب معه لنسهر مع صديقاتنا إلى الصباح: أنا الذي ربيته عندما كان "لحيمي"(7)، فإنتبه لذلك، وكان في ذلك يمزح، لأنه لم يصدق ادعائي بأنني لم أشرب في حياتي.
***
عند العودة، كانت وسيلة تنقلنا هي القطار نفسه، ذهبنا إلى المحطة فانتبهنا إلى أن الملازم (ك) الذي يعود معنا إلى العراق غير موجود...
فقال: م أول (...) إنه يعرف أين يجده، ذهب وبعد فترة عاد ومعه الضابط ثملاً، وعرفنا منه أنه شرب كثيرا هو وصديقته، ورفض العودة، وقد مزق الجواز وبطاقة العودة، لأنه أحب صديقته كثيرا، وهام بها، وقد حملت منه لكننا أقنعناه أن تنزل الطفل فأنزلته، خوفا على الضابط، وكان هو يريد أن يبقى معها،إذ تزوجها بالسر ولا يريد أن يتركها، إلا أن الأمور تتطلب عكس ما كان يحلم به.
كان كما بكى الشاعر أمرؤ القيس محبوبته التي غادرها:
ففاضت دموع العين مني صبابة
على النحر حتى بل دمعي محملي
عندما وصلنا إلى العراق حكم عليه بستة أشهر سجن.
أروي هذه القصة؛ منع العسكري العراقي الزواج من أجنبية, بعد ثورة تموز عام 1968.
إذ سمعت أن الدولة في فترة الستينيات أوفدت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثلاثة ضباط طيارين للاشتراك بدورة (الطيران المتقدم لمعلمي الطيران).
كانت الـ CIA تحاول الحصول على طائرة الميك 21 المتقدمة جداً في حينها، كان هؤلاء الطياريين من قادة تلك الطائرة، تحركت لتجنيدهم كل واحد على حده، رفض الاول "حامد ضاحي الامر وبشدة، دبر له حادث سير مدبر وقتل قبل نهاية الدورة.
اما الثاني محمود شاكر فقد وافق وفي حال عودته ينقض الاتفاق، وكان على علاقة بفتاة امريكيه اسمها كروثر هلكر، بعد عودة محمود شاكر أثر السكوت، جاءت كروثر الى العراق لحث محمود على تنفيذ الاتفاق" رفض " فوجد مقتولاً في شقته بشارع السعدون، وهربت كروثر في نفس الليلة من مطار بغداد.
والطيار الاخير قد سرق طائرة الميك 21 في صباح 16/اب/1966 وهرب بها إلى إسرائيل، وهو الضابط الطيار منير روفا، بعد أن هرب عائلته الى ايطاليا بكروب سياحي القصة هكذا سمعتها تحكى داخل جلسات الضباط في القوة الجوية.
***
الهوامش:
1 - إفتر: دارَ، داخ.
2 - مدينة آيفانوفو هي واحدةٌ من مدن روسيا الواقعة في الكيان الفدرالي الروسي المَعروف باسم إيفانوفو أوبلاست، وهي واقعة بين نهري الفولغا وكليازما وتحديداً على ضفاف نهر أوفود، وتُشكّل هذه المدينة المركز الإداري لمُقاطعة ايفانوفو، ويشار إلى أنها تبعد عن العاصمة موسكو مسافة تصل إلى 318 كيلومتراً، وتبلغ مساحتها ما يقارب 105 كيلومترات مربّعة.
3 - العَرَق: شراب كحولي مشهور في العراق وله مصانع كذلك، وهو على أنواع، العصرية، والاسود، والمسيّح، وأبو نواس.
4- استخدمت لفظة الآن ككلام فكرت به في وقت الجلسة، أما الآن في هذا الوقت، عام 2020، فإن صهري الكبير قد إنتقل إلى العالم الآخر، وصهري الثاني أصبح حاجا ويؤدي الفرائض الدينية اليومية.
5 - المرصاع: لعبة تفتر وتدور على الأرض، على مفسها، بوسطة خيط يلف عليها.
6 - شعر: شارل بودلير- ت: صلاح انياكي أيوب.
7 - لحيمي: أي مثل فرخ الطيور الذي لم ينبت على جلده ريش، فهو لحيمي.